يقوم قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية بزيارة تاريخية إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، بلد التسامح وتحالف الحضارات والتنوع الثقافي، وسمعنا من وسائل الإعلام المتعددة فخر الكاثوليكيين المقيمين في دولة الإمارات بهذه الزيارة، حيث اعتبروها أكبر هدية تقدمها لهم الدولة، مؤكدين فخرهم بوجودهم في هذا البلد المضياف، والذي ضربت قيادته أروع الأمثلة في العطاء والتسامح والتعايش، مجمعين على أنهم يتمتعون بالحرية الكاملة في ممارسة عباداتهم، مشيدين في الوقت ذاته بمنظومة القوانين المعمول بها على أرض الإمارات.
ولا غرو أن هذه الزيارة هي تفنيد لنظريات الحقد التي طغت في أزمنة متعددة، وعلى رأسها نظرية هانتنغتون، هذا الأيديولوجي الذي أراد أن يعطي للحضارات والهويات طبائع ليست فيها.. فهي ليست كيانات مغلقة، مفرغة من كل تلاقح وتمازج مع نظيرتها التي تحرك المسيرة الإنسانية منذ قرون والتي سمحت، كما يكتب إدوارد سعيد، «ليس فقط باحتواء الحروب الدينية والتوسع الإمبريالي، بل جعلت التاريخ تاريخاً للتبادل والتفاهم والالتقاء الثري»، وهذا كلام صحيح. ففي الحواضر الكبرى تعايش المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم في بيئة واحدة، فحميت الكنائس والبيع تماماً مثل المساجد واستفادت من العهود والمواثيق التي أبرمت بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات السماوية. وقد التقى المسلمون، حسب تعبير الأستاذ المقتدر محمد الكتاني، بعد فتوحاتهم على امتداد القرن الأول الهجري، بشعوب كانت على جانب كبير من الحضارة وازدهار الثقافة، كالفرس والرومان والهند، فكانت المرحلة الأولى لهذا اللقاء مرحلة تصادم وصراع بين الفريقين. ورغم تفوق هذه الشعوب حضارياً يومئذ، فإنها أذعنت لسلطان الإسلام، فغدت تابعة لدار الخلافة في المدينة أو دمشق أو بغداد، لكن في مقابل هذه السيادة العربية السياسية الدينية ظلت حضارات البلاد المفتوحة وثقافاتها هي صاحبة السيادة. وهو ما جعل البعض يقول بحق: «إذا كان المسلمون قد فتحوا بلاد الأعاجم دينياً وسياسياً، فإن هؤلاء الأعاجم قد فتحوا عقول العرب ثقافياً وحضارياً»، وهو ما يعني أن الحوار الثقافي والحضاري بين العرب والفرس والرومان وغيرهم كان ضرورة حتميةً، رغم الإقرار بأنه لم يكن سهلا، ولا تحقق بوفاق أو تسامح في بداية الأمر، وإنما نتج عن مخاض وصراع دام أكثر من قرنين أو يزيد، بل الأكثر من ذلك، تمازجت الثقافات الدينية النصرانية واليهودية مع الثقافة الدينية الإسلامية.
إن الصدام الحضاري لن يكون، كما كتب غراهام فولر، «حول المسيح أوكونفوشيوس أو الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بل على سوء توزيع الثورة والقوة والنفوذ»، فهناك 20% من ساكنة العالم هي التي تنعم بظروف عيش الدول المتقدمة، والهوة تزداد اتساعاً بين الأغنياء والفقراء، وحسب تقارير المؤسسات الدولية، فإنه من ضمن ستة مليارات من سكان العالم، يعيش ثلاثة مليارات بأقل من دولارين في اليوم و1.2 مليار بأقل من دولار واحد في اليوم أي تحت عتبة الفقر المطلق، وهناك 1.5 مليار من الساكنة لا تتوفر على الماء الصالح للشرب. وسوء توزيع الغنى في العالم، الذي تزيد فجوته مع هيمنة العولمة، هو الذي يزيد من درجة السخط والغضب وهو الذي يؤجج العنف والصراعات الإثنية والعرقية.
ليست الثقافات هنا هي المسؤولة عن المجاعة في أفريقيا، ولا عن هذه الفوضى الاجتماعية والفوارق الاقتصادية. والعولمة بدل أن تقوم بإنماء الدول الفقيرة، كما توقع البعض، فهي بشكلها الحالي «من شأنها أن تكون في مصلحة القوى الاقتصادية الأكثر قدرة وقوة، ورغم أنها تشكل قيمة مضافة بالنسبة للمنافسة وتقدم الإنسانية، فهي لا تخدم إلا جزءاً من ساكنة العالم، القادرة على استغلال السوق والموارد المتوفرة».
وليست الثقافة العربية هي المسؤولة عن التخلف والتراجع الحضاري واستمرار الضعف، وتفسير هذه الظاهرة بالعامل الثقافي هو هروب من مواجهة الواقع المر، ويعفي من مغبة مواجهة المشاكل الحقيقية. وهذا الانحراف الفكري الخطير شبيه بنظرية هانتنغتون التي تساهم في توجيه الرأي العام الغربي إلى وجهات خاطئة تبعده عن العامل الصحيح في تفسير الأزمات وأسبابها الحقيقية وتغذيه في نفس الوقت بمشاعر الكراهية والعنصرية والعداء ضد الآخر.