من طقوس الحزن والعزاء القديمة التعزية في الميّت في الذكرى الأربعين لموته. هل نقول إننا في هذا العام (2019) إنما نعزّي في الذكرى الأربعين لإيران التي قتلتها ثورتها في 1979؟ البعض قد يظن أن قولاً كهذا ينطوي على مبالغة كبيرة. هذا ليس صحيحاً.
والحال أننا لابد أن نستدرك قبل إيضاح ما هو مقصود بالموت في عام 1979. فذلك لا يعني أن إيران الشاهنشاهية كانت تتدفّق حياةً وحيويةً قبل الثورة الخمينية: الاستبداد كان يحكم سعيداً، وكان جهاز السافاك الشهير كان يحصي على المعارضين أنفاسهم، وفي السجون كانت تُمارَس أشكال مقيتة من القهر والتعذيب. كذلك لم يسلم نظام الشاه من نوازع توسعية في الخارج، وهو ما مارسه بوضوح وفجاجة لدى احتلاله الجزر الإماراتية الثلاث، أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، أواخر عام 1971.
ومع هذا فإن كافة السيئات الكبرى التي عرفها نظام ما قبل الثورة، عادت إلى الظهور على نحو أكبر وأخطر بعد قيامها. فالقمع والفساد صارا من عيار فلكي. أما النوازع التوسّعية فتطورت بحيث تجاوزت الاحتلالات الترابية وصارت أقرب إلى تغيير الطبيعة نفسها. هذا ما تنمّ عنه محاولة الاتصال بالمشرق العربي من خلال جسر عريض يمتد من العراق إلى قطاع غزة. يندرج في هذا الإطار التدخل العسكري المباشر في سوريا، والوجود شبه الاحتلالي في العراق، والتحكم بقرار الحرب والسلم في لبنان من خلال «حزب الله». ولا نضيف جديداً إذا قلنا إن هذا التوجه نحو تغيير الطبيعة نفسها لا يجد ما يشبهه في تاريخنا الحديث سوى قيام دولة إسرائيل في عام 1948، والذي صاحبه التهجير الواسع الذي حل بالشعب الفلسطيني من وطنه.
وبالمقابل، عرف نظام الشاه إصلاحات جزئية طالت التعليم وأوضاع المرأة وبعض قطاعات الإنتاج. ولم يكن قليل الدلالة أن الانتفاضة الفاشلة التي قادها آية الله الخميني في 1963 وقضت بنفيه إلى العراق، إنما استهدفت إصلاحين كبيرين أقدم عليهما نظام الشاه: أحدهما يتعلق بأوضاع النساء الإيرانيات اللواتي أراد لهنّ الخميني أن يلزمن بيوتهنّ، والثاني يطال الإصلاحات الزراعية التي سميت بـ«الثورة الخضراء»، في مبادرة رسمية لكسر ملكيات الأرض الضخمة التي تمتلكها المؤسسة الدينية وبعض حلفائها.
والحق أنه في أواخر عهد الشاه جرت محاولة لإحداث انتقال سلمي من خلال تكليف الإصلاحي شاهبور بختيار بتشكيل حكومةٍ رفضها الخميني واختار، بدلاً منها، الطريق العنفي المفضي إلى إقامة «الجمهورية الإسلامية». وفي نهاية المطاف، وكما نعلم جيداً، فإن بختيار نفسه اغتيل في فرنسا، عام 1991، على يد عملاء للنظام في طهران.
لكنْ قد يكون أكبر علامات موت إيران في 1979 نشر وتعميم الوعي الظلامي الذي لا يزال يحكمها حتى اليوم: الوعي الذي مثّل انتكاسة لقيم التقدم وسيادة العقل على نطاق غير مسبوق. فانطلاقاً من إيران خطا هذا الوعي خطواته الكبيرة نحو الخارج. هكذا ساهمت ثورة الخميني ونظامها في إحداث الانتقال إلى «عصر الهويّات» التي تجد سندها في الولاءات المتوارثة وغير العقلانية، كما في التعصّب أداةً في البلوغ إليها. وغنيّ عن القول إن تحولاً كهذا ذو طاقة تدميرية، ليس بالنسبة إلى وعي عشرات الملايين من الإيرانيين، بل أيضاً لمنطقة فسيفسائية التركيب، وشديدة الحساسية، كالمنطقة العربية. إنه يضعها على تخوم حروب أهلية لا نهاية لها.
فهل يكون التردي الاقتصادي الراهن لإيران - والذي ينتجه خليط الحصار الأميركي والتعويل الأحادي المديد على الريع النفطي - هو الذكرى الأربعون التي يقال بعدها: لتكن هذه خاتمة الأحزان؟ نأمل ذلك. إنّ كلّ من يتمنّون الخير لإيران وشعبها يأملون ذلك أيضاً.

*محلل سياسي -لندن