في انتصار نادر للتعاون الدولي، أطلق وزراء 75 بلداً في منظمة التجارة العالمية منذ أيام في دافوس محادثات لتنظيم التجارة عبر الإنترنت بطريقة «أكثر قابلية للتنبؤ، وأكثر فعالية وأمناً»، وفق ما أعلن الاتحاد الأوروبي. وشارك في إطلاق المبادرة وزراء من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين وغيرها. وأكدت المفوضة الأوروبية للتجارة أن «التجارة الإلكترونية باتت واقعاً في مناطق عديدة من العالم.. لذلك بات من واجبنا أن نوفر لمواطنينا وشركاتنا بيئة تجارية أكثر قابلية للتنبؤ وأكثر أمناً وفعالية». وحذرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل من أن المعطيات الإلكترونية «ستصبح المادة الخام للقرن الحادي والعشرين». وتابعت: «إن لم ندرها، فسنشهد تشكل مجموعات مناهضة للتكنولوجيا كما شهدنا في الماضي»، في إشارة إلى مناهضي الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.
وكنت أنتظر أن تتطرق المستشارة الألمانية في هذا الجانب إلى خطورة القرصنة الإلكترونية، وهو ما لم تفعله. ونتذكر أن بيانات شخصية لمئات المسؤولين السياسيين والشخصيات العامة، بينهم ميركل، قد تم نشرها على الإنترنت إثر عملية قرصنة واسعة النطاق. وشملت التسريبات لوائح بمئات أرقام الهواتف النقالة والعناوين ووثائق داخلية لأحزاب سياسية. وبحسب عدة وسائل إعلام، فإن التسريبات استهدفت أيضاً مشاهير وصحافيين. وقالت وزارة الداخلية الألمانية، إن كل الأحزاب السياسية
الألمانية الكبرى، من «الحزب الديمقراطي المسيحي» إلى حزب «الخضر»، شملتهم القضية، وكذلك حزب اليمين المتطرف «البديل من أجل ألمانيا».
المستشارة الألمانية تعي أن العالم الإلكتروني لا يمكن إيقاف عجلته ولا تبني سياسة حمائية كلية ضده، وإلا ضاعت مصالح الشركات والمؤسسات والأفراد والدول. وهي بشهادة الجميع خبيرة استراتيجية بامتياز ستفتقدها ألمانيا سنة 2021 عندما تغادر كرسي المستشارية، فهي تفهم أن أهم ما يجب أن يسعى إليه الخبراء الاستراتيجيون اليوم هو حماية مصالح بلدانهم وتعزيزها داخل البيئة الاستراتيجية، عبر إيجاد تأثيرات متعددة المستويات والمراحل وتطوير البنى التحتية والاختراعات الإلكترونية.
فالاستراتيجي يكون ناجحاً إذا فهم طبيعة البيئة الاستراتيجية، وبنى استراتيجية تتسق مع هذه البيئة، بحيث لا يُغفل طبيعتها، ولا يستسلم للأطراف الأخرى أو للمصادفة. وقد وُصفت طبيعة البيئة الاستراتيجية مرات عدة، ومن قبل سلطات مختلفة، ويُشار إلى هذه البيئة في منشورات وثقافة المؤسسات الاستراتيجية باختصار مكون من أربعة أحرف (VUCA)، وهو اختصار يتضمن الوصف التالي: «نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ. وفي هذا العالم تكون قدراتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية. وباختصار، هذه البيئة تتسم بالتقلب،
والتوجس، والتعقيد، والغموض». ودور الاستراتيجي هنا هو ممارسة النفوذ للسيطرة على التقلب، وإدارة الهواجس، وتبسيط التعقيدات، وكشف الغموض...
ونفهم جلياً مجاراة مفوضة التجارة في الاتحاد الأوروبي سيسيليا مالستروم لكلام ميركل على هامش منتدى دافوس، حيث دعا قادة الدول إلى صد الحمائية التي تتبناها واشنطن.
المهم في هذا الإعلان كونه مثّل حدثاً «تاريخياً»، في ظل الحرب التجارية بين بكين وواشنطن وسط
تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتكررة تحت شعار «أميركا أولا»، ومهاجمته منظمة التجارة العالمية بسبب تجاهلها، حسب اعتقاده، المصالح التجارية الأميركية لصالح الصين.
نكتب هذا الكلام التفاؤلي باستفاضة، لكن لا يجب أن ننسى أن منتدى دافوس استمرت أعماله وسط حالة من الضباب السياسي والاقتصادي والاجتماعي المخيم على أوروبا والعالم، حيث لم نشهد تدخل رؤساء الدول الذين اعتادوا الحضور، كالرئيس الفرنسي ورئيسة الوزراء البريطانية، بسبب الأزمات الداخلية اللامتناهية، ووجد المتتبعون أنفسهم في خضم صراعات بين مؤيدي مدارس تدافع عن الليبرالية وأخرى تدافع عن الحمائية، والجميع تنتابه المخاوف من الشعبوية وتأثيرها على الاقتصاد الوطني بل والعالمي وعلى الاستثمارات الدولية التي بدأت تتراجع تدريجياً، وهذا هو الباروميتر الذي تقاس عليه صحة الاقتصاد العالمي.