يمر العالم العربي بمرحلة أو بمراحل تتسم بالتمزق والتمزيق ما إن تمرّ واحدة منها بشيء من التوازن، حتى تلحق بها واحدة أخرى أشد مرارة وأكثر اتساعاً وعمقاً وحضوراً. كان هذا الاتجاه ذا حضور مع بدايات الاستقلال الوطني عن عمليات التدخل الخارجي في الأقطار العربية. واستمر التدخل الاستعماري في العالم العربي بصيغة الاستعمار الجديد، إضافة إلى ما تهدم من مشاريع عربية، مثل الوحدة بين مصر وسوريا وتفكك معها ما أنجز من تطوير هذا الحقل أو ذاك في البلدان العربية المعنية. وإذا كان ذلك العامل فاعلاً في تفكيك البنية الوطنية اقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً وتربوياً، فإن حركة الانقلابات العسكرية خلال القرن الماضي أكملت عملية تفكيك تلك البنية. فها هنا، كانت الأداة إلى ذلك الأمر فاعلة بمعنى التخريب الداخلي، وبمعنى ترك الخراب في الداخل مقدمات لعملية أو لعمليات تفكيك للبنى الداخلية الاقتصادية والسياسية والثقافية التعليمية... إلخ.
وفي هذا السياق، كان ل «الدولة الأمنية» دور فاعل بمعنيين، الأول يتصل بكم الأفواه، والثاني بإحكام الفساد والإفساد في الدولة والمجتمع كله، ومن ثم، راحت تنشأ صيغة من «الدولة»، التي تتألف من كل عناصر الفساد والإفساد: تدمر البنى التي «كُلَّفت» برعايتها، وثانياً تجعل كل من يلتئم بها من الداخل أو الخارج، خاضعاً لعملية الفساد، إضافة إلى محاولة تفكيكها وبعثرتها وتحويلها باتجاه مصالح الفاسدين.
أما الجهل والتجهيل، فيمثلان عملية واحدة وبأهداف واحدة، نشر الحذر والخوف والانصياع للأوامر: على صعد المجتمع بكامله، بدءاً بالعائلة واستمراراً بالطوائف بتعددياتها الاثنية والدينية، وصولاً إلى العنصرية وغيرها. وفي هذا وذاك تظهر الطوائف كلها أو متتابعة، أما ما يعتبر وطناً للجميع، فيصبح إدانة باسم «إهمال» الطوائف والمجموعات الدينية والاثنية!
وعلى هذه الطريق تنفتح الأبواب أمام الجميع من الانتماءات الداخلية والخارجية، إذ في هذه الحال، تنفتح أبواب خارجية للطوائف والاثنيات، وتغيَّب مفاهيم المجتمع والوطن والشعب والتاريخ الوطني... إلخ، كما تخترق حدود هنا وهناك تابعة لطوائف ذات حضور ثانوي، وذلك باسم حمايتها من جماعات أخرى في الخارج. وفي هذه المناسبة يحضرني حدث يجسد هذه الحال، ففي بداية الأحداث النارية الملتهبة، يقف حسن نصر الله مدافعاً عن طائفته المقيم جزء منها في سوريا وفي ذلك الوقت الحاد والصعب، يقف مدافعاً عبر قناة تلفازية عن تدخله في سوريا أثناء بدايات حرب 2011، فيقول، بوضوح وبلغة الدفاع عن «حقه» قائلاً: «لقد دخلنا إلى سوريا، كي ندافع عن مقدساتنا!» - بالمناسبة هو يعني «مقام السيدة زينب وغيره في دمشق».
فوقفت أمام تلفزيون «الميادين» بعد أيام من التصريح بذلك، وطرحت التساؤل التالي الذي وجهته إلى السيد حسن نصر الله: «ومن دافع عن مقام السيدة زينب طوال ألف وأربع مائة عام؟ أي طوال مدة وجوده في سوريا - قريباً من مدينة دمشق!؟
وقد أسفت لذلك الذي صرح به نصر الله، وأسفت لتجاوز التاريخ العربي، الذي كان وما يزال أرضاً خصبة مباركة؟!.. أقول خصبة مباركة لكل الطوائف السورية الدينية والعرقية، وغيرها، دونما أدنى تمييز عرقي وما شابه! هكذا، يصنع من مفاهيم الطوائف والأقليات الدينية وغيرها سلُّماً يصعد عليه من يغذي الطائفية بكل تجلياتها، في بلاد العروبة والإسلام، إسهاماً في إنتاج صراعات وحروب بين طوائف وآخرين، تأجيجاً لصراعات سياسية زائفة، ومكلفة على مدى عقود، بل مئات من السموم، وذلك - لنتمعن في ذلك - تأجيجاً لصراعات زائفة، بالمعنى التاريخي والمعرفي، ولفتح أبواب تدخل الآخرين في الشؤون الداخلية، ومن ثم في سبيل ترك الوطن العربي سائراً على طريق التفكيك، وذلك بأيدي الأغراب، الذين يضمرون السمّ والتفكك لذلك الوطن، ولا شك أن الشعب السوري يمثل هدفاً لقوى خارجية تسعى إلى تفكيك ما يزعجهم.
وفي هذا الحال ما الذي يمكن فعله، إذا كانت القوى المضادة حليفة لقوى أخرى تزعم أنها تكن الخير والسلام للعالم العربي، ولكنها تراهن على تفكيك هذا العالم لأهداف طائفية ملوثة وذات أهداف استراتيجية كبرى! ولن نهمل أحد الأسباب الكامنة وراء الجهل والتعصب والفساد، ذلك هو المتمثل ب «الجهل السياسي والتجهيل الأيديولوجي».