«أصدقاؤنا الوحيدون هم الجبال». هكذا يقول المثل الكردي الذي يلخص سجل الازدواجية والخيانة الطويل من قبل الحلفاء الذي بات يطبع تاريخ هذا الشعب الشجاع. هذه المجموعة العرقية، التي يبلغ تعدادها 30 مليون نسمة تقريباً، تعيش على المناطق الحدودية بين إيران والعراق وسوريا وتركيا. ولكن أكراد سوريا هم الذين تكبدوا أحدث خديعة عندما أعلن الرئيس دونالد ترامب في 19 ديسمبر الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من سوريا، حيث كانت «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد من بين أكثر شركاء أميركا فعالية في القتال ضد إرهابيي تنظيم «داعش».
ترامب قال في البداية: «إن ألفي جندي أميركي سيغادرون سوريا في غضون 30 يوماً»، ولكنه وافق، على ما قيل، على طلب البنتاجون بشأن انسحاب تدريجي على مدى أربعة أشهر. وبالتالي، فإن الخيانة ستحدث بالحركة البطيئة.
غير أن على غرار أشقائهم في العراق «البشمركة»، فإن الأكراد في سوريا يمكن أن يكونوا نموذجاً في التطبيق الفعال لخطاب أميركا الذي يحث أصدقاءها في المنطقة على تولي مزيد من القتال الفعلي بينما تقوم الولايات المتحدة بتدريبهم ومساعدتهم.
ومثلما لفت إلى ذلك كاتب «واشنطن بوست» ديفيد إيجناتيوس في مقال له في 23 ديسمبر الماضي، فإن الأكراد وحلفاءهم بسطوا سيطرتهم على 30 في المئة من سوريا واستولوا على مدينة الرقة، التي كان تنظيم «داعش» قد اتخذ منها عاصمة له – وتكبدوا خلال تلك الفترة مقتل 4 آلاف رجل وامرأة وجرح 10 آلاف آخرين. وعلى سبيل المقارنة، فقدت الولايات المتحدة ثلاثة جنود خلال فترة الأربعة أعوام تلك، وفق البنتاجون. وقد أخبر القائد الكردي لـ«قوات سوريا الديمقراطية» الجنرال مظلوم عبدي «إجناتيوس» بأن إعلان ترامب الانسحاب كان «شيئاً لم نكن نتوقعه البتة».
والواقع أن من بين الفصائل التي تخوض الحرب الأهلية السورية، التي بدأت في 2011، يمكن أن يكون من الصعب أحياناً تمييز من هم «الأخيار» – إلا حينما يتعلق الأمر بالأكراد. فبينما كانوا يخوضون حرباً لسنوات ضد «داعش» في شمال شرق سوريا، حكم أكراد سوريا سكاناً يناهز تعدادهم مليوني نسمة بقدر من الاحترام للحرية الدينية، والمساواة بين الأنواع، وحقوق الأقليات غير معهودة في ذاك الجزء من العالم. ولكنهم مكروهون من قبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بسبب ارتباطهم بالانفصاليين الأكراد في تركيا. ومع انسحاب الولايات المتحدة، فإن من شبه المؤكد أن إردوغان سيشن حملة عسكرية منسقة ضد الأكراد في سوريا. ولهذا، فإن الخطوة المتهورة لترامب من المحتمل أن تدفعهم إلى أحضان الرئيس السوري بشار الأسد هرباً من الإبادة.
وعندما تُكتب تفاصيل هذه الحلقة المؤسفة، سيستطيع المؤرخون الوقوف على التباين الكبير بين الرئيس الأميركي وزعيم بلد حليف للولايات المتحدة.
فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومنذ وصوله السلطة في 2017، عمل على زيادة الدعم الفرنسي لأكراد سوريا و«قوات سوريا الديمقراطية». وسخّر قوات برية وجوية إضافية للائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة. وفي مارس الماضي، استقبل قادةَ «قوات سوريا الديمقراطية» في باريس، مشيداً بتضحيات جنودها في القتال ضد «داعش». وبعد إعلان ترامب عن تغيير موقفه في ديسمبر، سارع ماكرون إلى طمأنة «قوات سوريا الديمقراطية» بأنه لن يحذو حذو ترامب في قراره الانسحاب.
وخلال زيارته الجنود الفرنسيين في تشاد في ديسمبر الماضي، عبّر ماكرون عن أسفه الشديد للقرار الأميركي قائلاً: «إن قوات سوريا الديمقراطية تحارب الإرهاب الذي شن هجمات ضد باريس وأماكن أخرى... وأدعو الجميع ألا ينسوا ما قامت به»، مضيفاً «أن نكون حلفاء يعني خوض القتال جنباً إلى جنب».
موقف ماكرون هذا يذكّر بالدعم الذي قدمته «دانييل ميتيران»، زوجةُ الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران، للأكراد أثناء تعرضهم لهجوم من صدام حسين في بداية التسعينيات. فبعيد الائتلاف الذي قادته الولايات المتحدة وطرد قوات صدام من الكويت عام 1991، حثّ الرئيسُ جورج بوش الأب العراقيين على الإطاحة بصدام. فلبّى الأكرادُ في الشمال والشيعة في الجنوب دعوةَ بوش. ولكن المساعدة الأميركية المتوقعة لم تصل أبداً، لتعقب مرتكبي الجرائم. ثم ساعدت «دانييل ميتيران» الغاضبة على شن حملة ناجحة لتأمين منطقة يحظر فيها الطيران فوق شمال العراق لحماية الأكراد. ونجت من انفجار قنبلة استهدف موكبها أثناء زيارتها المنطقة في 1992.
وإلى اليوم، تُعرف دانييل ميتيران بلقب «أم الأكراد». ويطلق اسمها على المدارس والطرق عبر كردستان، ذات الأغلبية الكردية. وهناك فتيات كرديات يسمين باسمها تيمناً بها وتكريما لها. تكريم كردي من المحتمل أن يُسبغ على ماكرون أيضاً يوماً ما. ولكن ترامب؟ الواقع أن المرء ما زال يحدوه الأمل في أن يغيّر موقفه بشأن الانسحاب، وأن يدرك أن تنظيم «داعش» لم يُهزم بعد، مثلما يزعم، وما زال لديه 14 ألف مقاتل في سوريا، مثلما أقرت بذلك حكومته في أغسطس الماضي. والواقع أن مع مرور كل ساعة، يَضعف موقفُ الأكراد، غير أنه لم يفت الأوان بعد كي تغيّر واشنطن مسارها، وتعيد التأكيد على دور أميركا، وتمد يد العون لحلفاء أميركا الأوفياء.
برنارد هنري ليفي: فيلسوف فرنسي وناشط سياسي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس»