في مشهد من فيلم، عادل إمام، «الواد محروس بتاع الوزير»، يحاول محروس، المصاب بإطلاق نارٍ بأصبعه أن يتناول طبقاً صينياً بالعودين المزدوجين. محروس لا يعرف عن الصين إلا هذين العودين، وضيق العينين، لذا فهو مثل شخصية بسيطة، راح يسخر منهم.
الجهل هو وقود السخرية من الشعوب، وهو أساس التفكّه بسير الشعوب الأخرى، والمجتمعات، التي لم نقرأ تاريخها بعد، كما فعل الواد محروس. لم يعلم محروس أن العودين المزدوجين يُصنعان غالباً من الخيزران، وأن لهما تاريخاً يعود إلى ثلاثة آلاف سنة، ولاستعمالهما أسباب وآداب وطقوس، ولهما «ثيمتها» الثقافية، ورمزيتها الاجتماعية.
لطالما كانت الصين، غامضة بالنسبة للعرب، وذلك لضعف تأثير الصين على الشرق الأوسط، مقارنة بتأثير النمط الأميركي أوالغربي عموماً.
ضربت الصين مثلاً بتأسيسها، لنماذج تقدمٍ خاصة وخارقة.
استطاعت أن تجمع بين النقيضين: الاشتراكية والرأسمالية، حتى أن طبقة الأغنياء منهم وهي بعشرات الملايين، أو تزيد، أصبحوا هم السياح الأكثر في العالم والمتسوقين الأكبر، والأثرياء الأكثر عدداً وعدة!
في كل أوروبا، لا يمكن أن تخطئ عينك «قائمة طعام» مكتوبة باللغة الصينية، بل أصبح رجال الأعمال والأطباء، يقدمون بطاقات الأعمال، وعلى وجهها تعريف بالإنجليزية، وعلى الآخر بالصينية!
لكن، كيف بدأت قصة التحديث الصينية باختصار؟!
منذ أوائل القرن العشرين، أخذت الصين خطة مُحكمة لنقل الشخصية الصينية التقليدية نحو أفقٍ آخر، ومنذ 1905، بدأت خطة تغيير بعيدة المدى للشخصية الصينية، كانت اللبنة الأولى للتحديث. حين ألغي نظام الامتحان الامبراطوري، الذي استمر أكثر من ألف سنة، قطيعة اُعتبرت علامة بدء الانتقال للتحول التاريخي!
لم تكن رحلة التغيير والتحديث في الصين سهلة، كأي مشروعٍ يعمل على تحديث شعبٍ بأكمله. كأنك تقود مئات الملايين معك لتخرجهم من أرضٍ إلى أخرى، إنها مثل عملية زحفٍ سرب خيالي من كوكبٍ إلى آخر.
الباحث المتخصص بالمجتمعات الآسيوية «ووبن»، لخص تلك الرحلة الوعرة، في كتابه: (الصينيون المعاصرون-التقدم نحو المستقبل انطلاقاً من الماضي)، بجزأين غنيين، قرأ التحول الصيني الشعبي من «الأفراد التقليديين» إلى «الأفراد المعاصرين»، واعتبرهم بالثلث الأخير من القرن العشرين، قطعوا نصف المسافة.
منتصف القرن الـ 21، كان ذروة بلوغ الصين للتغيير الكبير، وبناء «الإنسان العصري»، وأصبحوا يسيرون نحو البوابة الكبرى للقرن الجديد، ويعاصرون بإتقان الإبداع التكنولوجي، ضمن حيوية قومية عالية، ومثابرة للتصحيح السياسي، مع استيعاب واثق، بمفاهيم، وقيم العصر الحديث.
ظلّت الصين قبل منتصف القرن الـ19، قابعة في عصر ما قبل العلوم، وبعد منتصفه، بدأت العلوم والتكنولوجيا المتقدمة والغربية الصنع الانتشار في الصين بصورةٍ مطردة، ولكن ذلك الانتشار كما يضيف «ووبن»، بدأ سطحياً، ومبعثراً، وقوبل بمقاومة عنيفة، وإقصاء من جانب المفاهيم الثقافية التقليدية الصينية، وأسلوب التفكير التقليدي.
ولذا لم تؤثر تلك المفاهيم والأساليب، بتغيير أسلوب التفكير التقليدي، كما أن الممانعة العنيفة عادت بالمجتمع إلى عصورٍ الظلام السحيقة. خففت الصين من ارتفاع أسوارها تجاه الغرب، سمحت لشعبها أن يتأثر بالحداثة، وموجات التطوّر الغربي، وتأثرت بالرأسمالية، ولم تقاوم العولمة وآثارها.
ويذكرنا «ووبن»، بأنه تم التخطيط لتجاوز الماضي، منذ إطاحة أسرة «المانشو»، في ثورة 1911، التي حكمت الصين أكثر من ألفي سنة، ما أنهى الديكتاتورية الإقطاعية التي استمرت ألفي سنة، وانتهى النظام السياسي الاجتماعي التقليدي. وعندما اندلعت حركة «4 مايو»، الثقافية الجديدة في عام 1919، استدرجت سلبية المجتمع التقليدي من الناحية السياسية، وعمقتها في الجانب النفسي ومفاهيم الأفكار، وكانت صدامية في طرحها حد العنف، وحطمت النظام الفكري الثقافي والتقليدي، المتمثل بالمذهب الكونفوشيوسي.
لذ اعتبر الكاتب التحول الصيني من القرن الـ19 إلى القرن الـ20، التحول التاريخي للصين من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، والتغيير الأساسي والشامل لآلية حركة المجتمع كله!
تجربة الصين، امتازت بخاصيتين: أولهما: قدرتها على التقدم، والدخول في معترك الحداثة، رغم الإرث الثقافي التقليدي، العميق، والمتجذر. وثانيهما: التحول المتكامل (سياسياً-مجتمعياً-فردياً) بشكلٍ متزامن. الصينيون قادمون، يأتونك في كل بلد من حيث لا تحتسب. سياحهم بالملايين، وهذه هي البداية فقط!