حين يصرّح السياسيون ذوو النزعة اليمينية أنهم يكرهون الليبراليين فإنهم يقصدون النوع السياسي من الليبرالية، وعلى النقيض من ذلك فهم ليست لديهم مشكلة مع الليبرالية الاقتصادية، ونظريات أن التجارة الحرة هي أفضل وسيلة للنهوض باقتصادات الدول، والمنافسة الحرة دون قيود، والتي تعني أن أصحاب رؤوس الأموال أحرار في اختيار الوسيلة التي يجنون بها أرباحاً طائلة. وقد ألهمت الأزمة الرأسمالية في العقود الأخيرة الشركات العملاقة بإعادة إحياء الليبرالية الاقتصادية، وفي ظل العولمة المتسارعة للاقتصاد الرأسمالي انتشرت الليبرالية الجديدة على نطاق عالمي، كما انتشر التغنّي بمفاهيم هيمنة السوق ورفع كافة القيود التي تفرضها الحكومات على المشروعات الخاصة، مهما كانت التبعات الاجتماعية والأضرار التي يتسبب بها رفع هذه القيود، والمزيد من الانفتاح على التجارة والاستثمار الدولي وتخفيض الأجور، وتهميش النقابات العمّالية وحقوق العمال، وعدم التدخل لضبط الأسعار، وإتاحة الحرية الكاملة لحركة رؤوس الأموال والبضائع والخدمات، وتقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية مثل: التعليم والرعاية الصحية، وتخفيض الإنفاق على الضمان الاجتماعي والخدمات العامة التي تدار من قبل القطاع الخاص تحت مسمى تقليص دور الدولة.
إذاً المفهوم يقضي على مفهوم الصالح العام أو المجتمع، واستبدال هذا الأخير بمصطلح المسؤولية الفردية، والضغط على الشرائح الأفقر في المجتمع من أجل البحث بأنفسهم عن حلول لمشاكلهم الخاصة بنقص الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي، وإذا فشلوا في إيجاد الحلول يتم توجيه اللوم إليهم باعتبارهم كسالى. وتقوم مؤسسات مالية قوية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بفرض الليبرالية الجديدة على جميع أنحاء العالم، حيث تجتاح الليبرالية الجديدة أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، والدول الأفقر في أوروبا مما يعني استعماراً جديداً، وخصخصة المؤسسات السيادية والخدمات الحيوية لصالح الشركات العابرة للقارات أو لوردات السوق المحلية وأصحاب النفوذ السياسي، وإنفاق الدول الفقيرة المال المستدان في التسلّح بدلاً من التنمية والثورة المعرفية والتقنيّة الإنتاجية المعاصرة.
فإن مفهوم الليبرالية الجديدة الذي يغطي جميع مناحي الحياة عزّز سيطرة من يملكون على من لا يملكون، وجعل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وسائل هيمنة على العالم ليفرضوا حزم إعادة ضبط الهيكلة على الدول الفقيرة، والدول التي كانت تصعد بقوة نحو الدول الأكثر تقدماً والمقايضة معها وفق شروط تسلب تلك الدول كل مقدّراتها ومواردها الأهم، وتشجيع الحكومات على ترشيد الإنفاق في ظل خدمات أقل من المتوسطة ومستوى معيشي سيئ في مجتمعات استهلاكية، مما يعني ثورات شعبية، وجعل وصايا الإصلاح المالي تصبّ في رفع قيمة الضرائب، وجعل مستوى الفائدة في البنوك المحلية مرتفعاً، والنتيجة اختلال ميزان الصادرات والواردات وانهيار العملات المحلية، وتوجيه الدول إلى التركيز على تصدير موادها الخام بأسعار منخفضة للدول الكبرى التي تعيد تصديرها لتلك الدول بالعملات الصعبة، مما يعني تراكم الديون واستمرار عملية الإفلاس وغياب التنمية، حيث تدفع الدول الأكثر فقراً ما يقارب من 25 ألف دولار في الدقيقة للدائنين في الشمال.
ولهذا يجب أن نفهم أن ما يجري في الجنوب من ظواهر مثل الإرهاب وتقسيم الدول، وإثارة الصراعات الحدودية والإقليمية، والنزاعات المذهبية والدينية والعرقية ما هو سوى بؤر أزمات ضرورية لاستمرار الاستنزاف، وبقاء الشمال قوياً يعتمد كلياً على وجود جنوب مضطرب، وهي الآلية التي تضمن عدم سقوط دول الشمال، وهو ما يفسر انتخاب الرئيس «دونالد ترامب» ونظام عالمي ما بعد النظام الجديد تصبح من خلاله السياسة خاضعة لأساليب تجارة التجزئة، وتصدير الأمراض قبل الدواء، والحروب قبل السلام، وجني الجزية على الطريقة «الداعشية»، وتخريب وإعادة بناء الدول، والسيطرة على مصادر الطاقة من خلال دول الممرات المائية الأهم عالمياً، وهو عالم يلعب فيه تحالف المال والسياسة دور العميل المزدوج، ولهذا لا غرابة أن تتحول دول الشمال الغنية إلى أداة في يد رجال الأعمال ومصالحهم وخاصةً أن تلك الدول معرّضة للإفلاس باستمرار النظام المالي والنقدي على الوضع الحالي.
ولا بدّ من نظام نقدي ومالي جديد، والتسويق لوصفات للإصلاح الاقتصادي العالمي الجديد والذي يجعل المجتمع تابعاً لتفاعلات السوق، وعلى المجتمع التكيّف مع مؤسسات السوق التي لا تخضع لأي رقابة بدعوى حريتها، ولهذا يوجد هناك «نادي قمار دولي» ينزع ملكية القطاع العام ويعيد توزيعها على أصحاب المصالح، وتحويل الشعوب والحكومات لعمال يعملون بأجور زهيدة لكبار المؤسسات الصناعية والمالية، وبذلك تكون الدولة جهازاً إدارياً ملحقاً بأعمالهم وهي الليبرالية الجديدة ليزداد الفقراء فقراً والأثرياء ثراءً.