«إنها لشرعة السماء، غيّر نفسك تُغير التاريخ»، بهذا الإطار تمحورت أفكار العالم المفكر المهندس الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، الذي تكبد صدره النحيل وذاكرته النشطة عناءَ حملِ هموم العالم العربي كافة، والبلدان المستعمَرة خاصةً بكل ما شهدته من صور لم ترُقه يوماً، منذ حدقت عيناه بملامح جدته راويةً له بشاعة المستعمر، الذي كان سبباً لتبيع والدته سريرها كآخر احتمال متاح لإكمال مصاريف تعليمه، ليخرج منه منظومة نهضوية غير تقليدية تلاقى لاحقاً بالإهمال، أو التفنيد والتقليل من شأن ما حققه، في مواجهة «مؤلفاتية» – أي بالكتب - كالذي وجده من سيد قطب، إذ قامت فكرته على الإنسان كأول بذرة لتحقيق الحضارة، بينما ذهب قطب منحىً بعيداً يقول فيه إن الإسلام هو الحضارة، وربما كان السبب في ذلك نهجه المعتاد في «أسلمة» الأشياء، وانقسام العالم لدار إسلام ودار كفر، بينما ذهب الأول لـ«أنسنة» الحضارة وليس «هجرة» الحضارة، والحقيقة أن الإسلام هو دين مكتمل وما يعانيه العالم العربي والإسلامي من تعثر ولادة «الحضارة»، يقوم على الإنسان الذي ما زال يعاني من «أللاكتمال» الثقافي، أو كما سماها بن نبي «القابلية للاستعمار».
ورغم أن مالك كان معجباً في البداية بجماعة «الإخوان»، إذ أن شعلة البحث عن الأمل كانت متوهجةً فيه منذ البداية، إلا أن ثورة 23 يونيو في مصر قطعت مرحلة الشك، لتنتقل لخيبة أمل يبني عليها درباً آخر يشقه في البحث عن الأمل، ليجد لاحقاً الجماعة ذاتها التي عارضت أفكاره، أصبحت حضناً استراتيجياً يتبنى أفكاره، التي لا يختلف اثنان على تميزها وجدية طرحها، إذ كان يعرف النهضة كمجهود فكري وأخلاقي وسياسي كبير، يخرج فيه العالم العربي من عزلته، ويحقق دوره المنشود في أن يكون شاهداً وفاعلاً في آن واحد.
وللأسف لم تحظَ مفردات «مالك» المتفردة بلفت الأنظار، لإصرار البعض على فهمها المغلوط، أو لأن المقصود من مفرداته كان واقعاً ملموساً ومعانيه حالة معاشة فـ«القابلية للاستعمار» التي حاول فيها استفزاز الفكر للنهوض والتغيير وتحفيزاً للتمعن في الذات والنقد الباعث لاكتشاف نقائصها. لطالما همس بن نبي لزوجته أن الناس بحاجة إلى ثلاثين عاماً مقبلاً لفهم ما يرمي إليه، مع أن انصراف العقول عن الإمعان في هذا النموذج الذكي المتفرد، يعود لأسباب هو الأكثر قناعةً بها فحين تكلَّم عن مفهومه الشهير «القابلية للاستعمار» أدرك مبكراً النظرة السطحية التي يغرق بها السواد الأعظم، وما أضرها لمّا جُبلت بترهات نظرية المؤامرة! لينطلق صوت داخلي وأهم لدى أفراد المجتمع ينزع مقومات التنمية والنهضة الفكرية العاملة بالمرتبة الأولى على إصلاح الفرد، الذي يعتبر تحقيقه بمثابة المدرج الأول لتكوين الحضارة بإقلاع ناجح، وإبحار آمن، ومقابل ذلك نجد أن ذات المفهوم «القابلية للاستعمار» كان سبباً في استسلام إحسان عبد القدوس – كاتب مصري لامع – للغرق أمام معانيه المتعمقة بالثقافة والوعي، فقال ملخصاً أفكاره تجاه المجتمع المُستعمر: «هو يرى أن العالم العربي ظل يحارب الاستعمار عشرات السنين لكنه أغفل قابليته هو للاستعمار، كان يجب عليه أن يحارب تلك القابلية التي هي المرض الحقيقي أما الاستعمار فهو عرض وعلامة لذلك المرض».
إن العقلية الرافضة للتطور والمتشبعة بالرضوخ للمخالب الاستعمارية هي من دفعت بالأحكام المجحفة على «شاهد القرن»، فهو يعيش في فرنسا إذن هو وسيلة لفرض الأفكار الغربية، وهو يكتب بالفرنسية إذن هذا لا يعنينا وهو لم يخرج علينا بحلة مؤسسة أو منظمة، إذن جهده لا يرتقي لمستوى التقدير والإبهار والعناية، مع أن حملة هذا الفكر هم مصدر للشفقة، فحتى لو نظروا لمؤلفاته «الدسمة»، سيجدون أنفسهم مقابل نصوص شُقَّ عليهم فهمها من الوهلة الأولى، فهي لوحة فسيفسائية بفكر عميق وأسلوب علمي على غير العادة! وأي درس قيمٍ بين طيات سيرة «ابن خلدون العرب»، في ضرورة الوقوف بجدية للبحث عن معوقات إيصال النماذج الفريدة، التي يُنأى عن إبرازها لحين تفتر أو يتوقف نبضها، فلماذا الاحتفاء لا يكون قبل الاختفاء؟
إن فكر مالك بن نبي يعتبر الثروة الحقيقة التي دفنت جهلاً وتقصيراً بحقه – رحمه الله - وجاء الوقت الذي نخرج به هذا الكنز لإغناء المناهج الجامعية ولتغذية العقول فقيرة التروية، ولتحقيق مهمتها البنيوية غير المقتصرة على الفقه والتعاليم، ولشحذ همم الإصلاحيين، ولا أعني هنا«مدعو الإصلاح»، فأذهب بهذا المعنى لنزر مما ذهب إليه بن نبي لأقول إن الإصلاح بالمرتبة الأولى يكون ذاتياً، وليس أجلَّ من دليل على ذلك من قوله تعالى في سورة الرعد:«إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، ويبقى السؤال الملح الذي أفنى بن مالك عمره واستغنى عن نصاعة المناصب التي أيقن سبب حرمانه منها، خدمةً لنا هو سيد الموقف، فهل ما زال المشروع الحضاري صالحاً ليومنا هذا؟ وهل يعتبر«المخلص»، ومحقق الآمال والطموحات والأحلام العربية التي لا تكاد شعوبها عن التوقف بالتغني بها في محافلنا؟