من الأهداف الرئيسية لعلم الاستغراب القضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي نسجها الغرب حول ثقافته كآخر الثقافات، ومنها جاءت «نهاية الفلسفة»، و«نهاية التاريخ»، و«نهاية العلم»، و«الإنسان الأخير»! والحقيقة أنه لا توجد ثقافة عالمية، بل كل ثقافة هي ثقافة محلية بالضرورة؛ تنشأ في زمان ومكان معينين، ولدى شعب محدد، وفي لغة بعينها.. ومَن تكون له الغلبة والانتشار تكون ثقافته عالمية. كانت الثقافة الصينية قديماً ثقافة عالمية عندما كانت الصين مركزاً للعالم، وكانت ترسم الخرائط الجغرافية، والصين وسطها. وكانت الهند قديماً ثقافة عالمية عندما كانت مركز الحضارات؛ ففي الشمال عنها آسيا الوسطى، وفي الشرق جنوب شرق آسيا واليابان والصين. وكانت حضارة فارس قديماً حضارة عالمية عندما انتشرت المانوية والزرادشتية خارج حدود فارس. وكانت حضارة مصر القديمة حضارة عالمية عندما انتشرت خارج حدودها في الشمال إلى فينيقيا واليونان، وفي الجنوب في بلاد نبط (السودان). وكانت حضارة ما بين النهرين قديماً حضارة بابل وآشور، وقوانين حمورابي، حضارة عالمية عندما شاعت خارج حدودها. وكانت حضارة كنعان في الشام حضارة عالمية تنتشر خارج حدودها في العراق شرقاً وفي بلاد اليونان غرباً. وكانت حضارة اليونان والرومان حضارة عالمية نشرها الإسكندر خارج حدودها. ترجمها وشرحها ولخصها وعرضها وألف في موضوعاتها العرب. ثم أصبحت الثقافة العربية مركز العالم حول حوض البحر الأبيض المتوسط، من الأندلس غرباً حتى الصين شرقاً. تنشر العلم والمعرفة إلى الشمال إلى ربوع أوروبا، وإلى الجنوب في أفريقيا جنوب الصحراء. وأخيراً أصبحت أوروبا في العصر الحديث المركز الحضاري للعالم بالإضافة إلى تفوقها المادي، فورثت الحضارة العربية الإسلامية بعد سقوط الأندلس واكتشفت نصف الكرة الغربي بالخرائط الجغرافية العربية. وربما ترث حضارة أخرى الحضارة الغربية الحديثة وهي في بداية النهاية. فلا توجد حضارة عالمية واحدة ثابتة على مر العصور؛ وتلك الأيام نداولها بين الناس.
كما يهدف علم الاستغراب إلى التغلب على عقدة العظمة التي تربت عليها الثقافة الغربية باعتبارها ثقافة العقل والعلم والإنسان والتقدم والتاريخ.. إذ فرضت الصمت حول مصادرها الأفريقية والآسيوية، كما كشف عن ذلك مارتن برنال في كتابه الشهير «أثينا السوداء». فالعقل عقلها، والعلم علمها، والإنسان إنسانها، والتاريخ تاريخها، والتقدم تقدمها.. مما خلق عند باقي الشعوب غير الغربية عقدة الشعور بالدونية تجاه أوروبا.
لا يمكن لحضارة القفز خارج وعيها التاريخي لكي تقبع في وعي تاريخي آخر، كما يفعل «البرجوازي النبيل» لموليير، وإلا وقعت أسيرة وهم أن هناك وعياً تاريخياً واحداً يمثله الوعي الأوروبي!
ويساعد هذا العلم على أن تنهي الثقافة العربية دورها في الاقتصار على الترجمة والتعليق والشرح والتلخيص للثقافة الغربية. فقد قامت بذلك خير قيام مع الحضارة اليونانية حتى لُقِّب ابن رشد باسم «الشارح الأعظم». بل شرحت الحضارةُ العربية ذاتها بعد أن شرحت الآخر، قبل أن تتوقف عن الإبداع في عصر الشروح والملخصات. وقد رضيت بهذا الدور في علاقتها بالغرب الحديث؛ تنقل نصوصه وتشرحها وتلخصها، وتعرضها وتؤلف فيها.. الغرب يؤلف وهي تشرح وتعرض. وهكذا ظل العرب يلهثون وراء الغرب لدرجة اتهامهم بالعقلية الشارحة وليس المبدعة.
وبذلك ترسخت ثنائية المركز والأطراف؛ مركز يبدع وأطراف تنقل.. مركز ينتج وأطراف تستهلك.
لقد ساهمت الحضارات البشرية كلها في بحر الحضارة الإنسانية من البداية وحتى النهاية في تراكم طويل، من الجذور في الشرق القديم إلى الثمار في الغرب الحديث. فالتاريخ جزء من البنية، تاريخ العلم جزء من العلم كوعي علمي، وتاريخ الفلسفة جزء من الفلسفة كوعي فلسفي. وتاريخ الدين جزء من الدين كوعي ديني.. وعلى هذا النحو يمكن إعادة الحضارة العربية الإسلامية إلى تاريخ الحضارات البشرية في العلوم والفنون بدلا من التهم الشائعة عليها حالياً وربطها بالعنف والإرهاب والتخلف والمحافظة والاستبداد وخرق حقوق الإنسان والأقليات، تقليصاً للماضي في الحاضر، ومصادرة على المستقبل.

أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة