في الأنظمة الديمقراطية على الأقل، أنجبت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية زعامات عقلانية، مثل فيلي برانت في ألمانيا، وفاليري جيسكار ديستان في فرنسا، وهارولد ويلسون في بريطانيا، وصولاً إلى مستشارة ألمانيا الحالية أنغيلا ميركل.
لا شك أن الفترة تلك، بما عرفته من نفور حيال الزعامية المطلقة، كما مثّلها أشخاص كهتلر وموسوليني، هي التي ساهمت في تعزيز هذه الوجهة. صحيح أن قادة وسياسيين شذوا كثيراً أو قليلاً عنها: فالفرنسيّان شارل ديغول وفرنسوا ميتران والأميركيّ رونالد ريغان والبريطانية مارغريت تاتشر، نُظر إليهم بوصفهم يمثّلون رئاسيّة فائضة. لكن الصحيح أيضاً أن هؤلاء جميعاً إنما انضبطوا باللعبة السياسية والديمقراطية وبالعمل ضمن القنوات والمعايير التي تتيحها.
لكنْ مع انفلات المال من كل ضابط، وتغلبه على الأفكار وعلى السياسة، شرعت بالظهور زعامات كالإيطالي سيلفيو بيرلوسكوني –الذي استفاد من انهيار الأدوات الحزبية كما عرفتها إيطاليا مع انتهاء الحرب الباردة– والفرنسي نيكولا ساركوزي، وبنسبة أقل، البريطاني توني بلير.
منذ سنوات، ومع الصعود المدوّي للحركات الشعبوية، ظهرت وجوه مختلفة كالأميركي دونالد ترامب، والهنغاري فيكتور أوربان، والفيلبيني رودريغو دوتيرتي، ومؤخراً البرازيلي جايير بولسونارو. ومع أن التركي رجب طيب أردوغان والإسرائيلي بنيامين نتنياهو أسبق عهداً بالزعامة السياسية، إلا أنهما سريعاً ما أعلنا انتسابهما إلى نادي السياسيين الشعبويين (نضع جانباً حالات كالإيرانية كون تلك التجارب ليست ديمقراطية أصلاً).
هذا النمط الشعبوي في الزعامة كثرت بشأنه التحليلات، لكن ما يعنينا في هذه العجالة هو أحد أبعاد هذه الزعامة، أي ارتفاع مستوى «الأنا» عند صاحبها. فالرئيس الأميركي ترامب، وهو من دون شك أبرز تلك الحالات، قد يُطلق حدثاً سياسياً لمجرد أنه أراد أن يطلق تغريدة على تويتر، وقد تتحول رغبته في كتابة تغريدة ما إلى سبب لحدث سياسي مؤثّر. وهكذا لا يخطئ الذين يقولون إن ظهور السياسي الشعبوي في وسائل الإعلام وتحوله إلى شغل شاغل للناس وإلى حديثهم اليومي، هو واحد من الأسباب البارزة في تفسير هذا الموقف السياسي أو ذاك.
يدفعنا واقع كهذا إلى استعادة جزء من تحليل ماكس فيبر، أحد رواد علم الاجتماع المعاصر، للزعامة السياسية، وتطبيقه تطبيق حد أقصى على الواقع الراهن الموصوف أعلاه. فمفهوم «النرجسية» يحتل موقعاً مركزياً في التحليل الفيبري للزعيم: إنه نوع من «دون جوان» سياسي يغري الناس ويسحرهم، مدركاً أنه يملك طاقة آسرة تتيح له ممارسة الإغراء والسحر عليهم. أما ما قد لا يصح دائماً في التحليل الفيبري فهو افتراضه بأن هؤلاء السياسيين السحرة ينطوون على موهبة فطرية فيهم، موهبةٍ تسهّل لهم الحصول على السلطة التي يكنّون لها حباً مطلقاً. فغني عن القول إن الطريق إلى السلطة أعقد من المواهب الفطريّة التي يصعب القول إن القادة الشعبويين الحاليين يملكونها.
لكن قبول الشعب –أو أجزاء واسعة منه– بهذه الزعامة، هو ما يقودنا إلى تحليل آخر، ليس صاحبه سوى مؤسس علم النفس الحديث سيغموند فرويد. فالزعيم، في نظره، هو الأب الذي يكرّمه الناس ويرفعونه إلى سوية المثال لأنهم قتلوا آباءهم الفعليين، أو اشتهوا موتهم، أي قتلوهم رمزيّاً. إن الأمر إذن ترجمة لشعور عميق بالذنب مرتبط بالعقدة الأوديبية، لكنه يوفر لـ«القاتل» نوعاً من التسامي الذي يحل محل العقاب على ارتكاب «جريمة».
فإذا صح التأويل الفرويدي، جاز لنا أن نتساءل عن الجرائم التي اقتُرفت من قبل أولئك الذين تعلّقوا بالقادة الشعبويّين، ثم رأوا في تعلقهم بهم طريقاً للتعالي والخلاص من شعورهم بالذنب!

*كاتب ومحلل سياسي- لندن