في سياق استغلال الدين لدعم الاستيطان اليهودي في فلسطين، استندت الدولة الصهيونية إلى قراءة شاذة للتوراة، بادر إليها الأفنجيكاليون وهم إنجيليون متصهينون همهم تبرير «الفكر الداعشي» المستجد، سواء أكان يهودياً أم «متمسيحاً» (ليس مسيحياً حقاً)، للتخلص من الشعب الفلسطيني وحقوقه ولدعم الدولة الصهيونية بشتى الوسائل.
وفي موضوع الدعم للدولة الصهيونية، هنالك مصدران من الدعم، أولهما (وهو أخطرهما) الدعم الذي يقدمه «المتمسيحون الصهاينة» من خلال هيمنتهم على القرار في الولايات المتحدة الأميركية، ذلك أنه ما من مرشح للرئاسة الأميركية إلا ويحتاج إلى أصواتهم. ولعل أسطع مثال على ذلك هيمنة هؤلاء على إدارة الرئيس دونالد ترامب، حيث أن عدداً من قادة وأنصار «الفكر المتمسيح الصهيوني» يتصدرون بعض المواقع المهمة في هذه الإدارة.. فهؤلاء معظمهم ليكوديون أكثر من «الليكود» نفسه، حيث تبنوا ودعموا برامجه الاستيطانية من دون تردد.
أما ثاني هذه المصادر فهو الدعم المباشر من قبل منظمات أميركية طالما قدمت التمويل والمؤازرة السياسية والإعلامية لإسرائيل ولبرامجها الاستيطانية في فلسطين. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، تصدّر اليمين الإسرائيلي المتطرف عملية إنجاز هذه المهمة، متناغماً مع بروز حركة «المتمسيحين الصهاينة» في الولايات المتحدة الأميركية، وبالذات بعد أن تنامى الدعم السياسي والمالي من النخبة اليمينية الأميركية للمشروع الصهيوني القاضي باستيطان فلسطين التاريخية. ومن أبرز هذه المنظمات «الأفلنجيكية» المسجلة أميركياً، والداعمة مالياً وسياسياً لإسرائيل، الجهات التالية أسماؤها: «الأصدقاء المسيحيون للجماعات الإسرائيلية» (‏CFOIC)?، ?و«صندوق ?الخليل»، ?و«السفارة ?المسيحية ?الدولية ?في ?القدس» (?ICEJ)?، ?و«المسيحيون ?المتحدون ?من ?أجل ?إسرائيل» (?CUFI)?. ?
وقد ?نشرت ?صحيفة «هآرتس» في الآونة الأخيرة تقريراً مهماً ?جاء ?فيه ?أن «إحدى عشرة ?منظمة ?إنجيلية ?أميركية ?جمعت ?مبلغاً ?يتراوح ?ما ?بين ?50 و?65 ?مليون ?دولار ?أميركي ?في ?السنوات ?العشر ?الماضية، ?من ?أجل ?تمويل ?مشاريع ?استيطانية ?مختلفة ?في ?الضفة ?المحتلة». ?وختمت «هآرتس» تقريرها بالقول: «إن الإنجيليين ?يؤيدون ?بحماسة شديدة ?المطالبات ?اليهودية ?بضم ?الضفة ?الغربية ?بأكملها، ?ويرون ?أنه ?من ?الضروري ?سيطرة ?إسرائيل ?على ?القدس ?وكل ?أرض ?الميعاد، إذ إن ذلك من ?شأنه أن ?يُعجل ?بحرب ?هرمجدون (?المعركة ?المنتظرة ?من ?قبل ?الكثيرين ?والتي يعتقدون أنها ?ستعجل ?بعودة ?المسيح وظهوره من جديد)».
ومن جهته، يكشف الكاتب الإسرائيلي «جودي ميلتس» حقيقة أخرى متممة، حيث يقول: «من الصعب تقدير حجم الدعم المالي المقدم لإسرائيل وللمستوطنات الإسرائيلية من جانب الإنجيليين الأميركيين، حيث إن مؤسسات غير ربحية كثيرة وكنائس عديدة مسجلة في الولايات المتحدة لا يطلب منها إعطاء تفاصيل عن مصادر تمويلها، أو تقديم توضيحات تبين لمن تصل هذه الأموال. وإن جزءاً كبيراً من إجمالي الاستثمارات الإنجيلية في إسرائيل يصل إلى المستوطنات وراء الخط الأخضر، ومن يستفيد من ذلك هي المجالس المحلية للمستوطنات، والجمعيات اليمينية الإسرائيلية المتطرفة، وبعض المستوطنات المعزولة (وغير القانونية حتى وفق القانون الإسرائيلي نفسه)، وبعض وكالات السفر المتخصصة في تنظيم سفرات إلى المستوطنات وتنظيم جولات داخلها. أما فيما يخص المنظمات الرئيسة التي تعمل على تجنيد الأموال من الإنجيليين، فإن عددها يزداد بشكل ملحوظ، كما أن المزيد من مبادراتها تدخل إلى حيز التنفيذ والتطبيق».
أما البروفيسور من معهد بيركلي للقانون اليهودي والدراسات الإسرائيلية، «تومر برسيكو»، فيقول: «إن معظم حاخامات المستوطنين تبنوا الصداقة والتعاون مع الإنجيليين، وهناك معارضة مشتركة لانسحاب إسرائيل من الضفة المحتلة، ووجهة نظر محافظة مشتركة في كل ما يتعلق بالعلاقة بين الجنسين، حقوق المثليين والأقليات، ومكانة الدين والقومية في المجال العام». ويضيف: «الحقيقة أن معظم الإسرائيليين الصهاينة والمتدينين يظهرون الآن مثل الجمهوريين الإنجيليين. والإنجيليون يؤيدون بحماسة المستوطنين ومطالبة اليهود بجميع الضفة الغربية، لأنه بالنسبة لهم (من الضروري أن تسيطر إسرائيل على القدس وعلى كل أرض الميعاد، من أجل قدوم المسيح الذي يتطلعون إليه). وبالطبع، المستوطنون لا يؤمنون بذلك، لكنهم يستغلون بسعادة إيمان الإنجيليين هذا».
إن استيلاء الأفنجيليكيين (المتمسيحين الصهاينة)، من خلال أفكارهم وأنشطتهم ورجالهم، على جزء مهم من القرار الأميركي، وبالذات في عهد الرئيس ترامب، يؤشر على حجم الدعم العسكري الاقتصادي السياسي الإعلامي الأميركي المتنامي المقدم لحكومة اليمين الإسرائيلي. ومما لا شك فيه أن هذا هو الدعم الأشمل والأكبر والأخطر. لكن داخل هذا «الإطار الواسع» ينتظم دعم المنظمات الإنجيلية لإسرائيل. وكلما اتجهت إسرائيل يميناً، على المستويين القومي والديني، ازداد دعم هذه المنظمات التي تستهدف تعزيز الاستيطان على امتداد ما يسمونها «أرض إسرائيل الكبرى»، وبالتالي تصاعد دور الأصولية الدينية والالتزام الأيديولوجي بينهما، الأمر الذي يدفع الصراع العربي الإسرائيلي إلى حرب دينية لا يعرف أحد متى تبدأ ولا متى تنتهي!