في يوم الخميس الموافق العشرين من ديسمبر الجاري، أعلن وزير الدفاع الأميركي «جيمس ماتيس» استقالته من منصبه، عبر خطاب شديد الصراحة موجه إلى الرئيس دونالد ترامب، أكد فيه أنه يستقيل من منصبه بسبب وجود اختلافات شديدة في الرأي بينه وبين الرئيس حول طبيعة إدارة سياسات الأمن القومي الأميركي. ومن المؤكد تقريباً أن السبب المباشر لهذا الرحيل المفاجئ، كان تغريدة نشرها ترامب في يوم الـ19 من ديسمبر الجاري، أعلن فيها أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها البرية البالغ عديدها 2000 جندي من سوريا، بعد الانتصار في الحرب على تنظيم «داعش». ولم يكن الرئيس قد قدّم أي إشعار مسبق للكونجرس بهذا الخصوص، ولا لوزارتي الخارجية أو الدفاع بشأن قراره المفاجئ!
وفي حين رحّب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان بإعلان ترامب، ثار غضب أعضاء في حزبه (الحزب الجمهوري)، من بين آخرين، إلى جانب وزير الدفاع ماتيس نفسه، بسبب القرار المذكور.
وبالنسبة لكثير من منتقديه، تشي تصرفات ترامب المباغتة وأحادية الجانب، بإخفاقه في فهم الطبيعة الخاصة لعلاقات التحالف الأميركية والحاجة إلى التشاور الدائم مع شركائنا وطمأنتهم حول بعض القضايا والمواقف والقرارات.
ولم يكن البيت الأبيض هو من نشر رسالة «ماتيس» الموجهة إلى الرئيس ترامب، وإنما وزارة الدفاع (البنتاجون). ولم تنطو الرسالة على أي عبارات شكر بروتوكولية، كما هو المعتاد في رسائل الوزراء إلى الرئيس، ولم تنته حتى بأي من عبارات التحية المعتادة، مثل: «مع أطيب الأمنيات».. بل جاء نص الرسالة على النحو التالي: «لقد كان اعتقادي دائماً أن مصدر قوتنا مرتبط ارتباطاً لا ينقطع بقوة نظام تحالفاتنا وشراكاتنا الفريد والشامل». وأوضح ماتيس أن أميركا واجهت تحديات خطيرة من قبل خصومها، لاسيما روسيا والصين، ولن يمكن وقفها ما لم نُدِر العلاقات مع أصدقائنا بطريقة فعّالة. وأنهى الوزير المستقيل رسالته بعبارة واضحة: «لأن لكم الحق في أن يكون لديكم وزير دفاع تتسق آراؤه بصورة أفضل مع آرائكم حول هذه الموضوعات وغيرها، فإنني أعتقد أن من حقي أن أتنحى عن مهام منصبي، على أن يكون آخر يوم عمل لي هو الثامن والعشرين من شهر فبراير 2019».
وخلال الأيام القليلة التالية، حاول ترامب التشويش على التغطية الصحافية واسعة النطاق لاستقالة ماتيس، والمقولة الشائعة بأنه كان «آخر العقلاء» في الإدارة الحالية. وفي تغريدة غاضبة، أعلن ترامب في الثالث والعشرين من ديسمبر أن «ماتيس» سيغادر مهام منصبه بحلول نهاية ديسمبر الجاري، وأن نائبه «باتريك شاناهان» سيصبح وزيراً بالإنابة.
وتزامنت استقالة الوزير «ماتيس» مع إغلاق جزئي للحكومة الفيدرالية الأميركية، بسبب الخلاف القائم بين ترامب وقادة الحزب "الديمقراطي" حول تمويل جداره على طول حدود الولايات المتحدة الأميركية مع جارتها المكسيك، ومع انهيار في سوق الأسهم الأميركية، إذ سجلت هذه السوق في شهر ديسمبر الجاري أسوأ انخفاض لها منذ الكساد الكبير.
وعندما عيّن ترامب «ماتيس» وزيراً للدفاع في بداية فترته الرئاسية، كان يُنظر إليه على أنه من أفضل الاختيارات وأكثرها منطقية. وعلى الرغم من أن الجنرال كان يُطلق عليه بعض زملائه «ماتيس الغاضب»، وهو اسم من الواضح أنه راق للرئيس ترامب، إلا أن الواقع هو أنه أحد أكثر القادة العسكريين اطلاعاً وحسن تفكير في البلاد، وأكثرهم إدراكاً لأهمية التنمية الاقتصادية وبناء التحالفات العسكرية والسياسية إلى جانب استخدام القوة الخشنة.
وعلى مدى أشهر، حصل «ماتيس» على تأييد عدد من الأعضاء الآخرين في فريق الأمن القومي للرئيس ترامب، ومن بينهم وزير الخارجية السابق «ريكس تيلرسون»، ومستشار الأمن القومي الجنرال السابق «أتش آر ماكماستر». لكن هذين الرجلين الكفؤين لم يستمرا طويلاً في منصبيهما داخل الإدارة الأميركية الراهنة، إذ استبدلهما ترامب برجلين أكثر «صقورية»، هما «مايك بومبيو» في وزارة الخارجية، و«جون بولتون» في مجلس الأمن القومي.
وقد أدت تلك التغييرات إلى زيادة القلق بين أوثق حلفاء الولايات المتحدة، الذين شعروا بالخوف من أن ترامب قد لا يحافظ على التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها. ويساورهم القلق أيضاً من أنه سيسعى للحصول على مساعدين لن يتحدّوا قراراته حول القضايا الأمنية والاقتصادية، ويشعرون بالقلق من أن عام 2019 سيحمل بين طياته أزمة إضافية مع الرئيس عندما تصدر نتائج تحقيق المحقق الخاص «روبرت مولر» بشأن التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، لاسيما أن هذه النتائج ستُعرض على أعضاء مجلس النواب الجديد الذي يهيمن عليه "الديمقراطيون"، والذي ستكون له سلطة سحب الثقة من الرئيس!

مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشيونال انترست» -واشنطن