تعرضت اليابان هذا العام لهزة سكانية غير مسبوقة، تجسدت في انخفاض عدد سكانها بحوالي النصف مليون، نتيجة انخفاض عدد المواليد الجدد، مقارنة بعدد الوفيات الطبيعية، على حسب تقرير صدر منتصف الأسبوع الجاري عن وزارة الصحة والعمل اليابانية. حيث أظهرت البيانات والإحصاءات، ولادة 921 ألف طفل خلال العام الموشك على الانتهاء، وهو أقل عدد ولادات منذ بدأ اليابانيون إحصاء عدد مواليدهم في عام 1899، مقارنة بوفيات بلغت 1,369 مليون خلال الفترة نفسها، مما جعل الفارق بين الولادة والوفيات يبلغ 448 ألفاً، خلال عام واحد فقط. وهو رقم يقارب ويزيد أحياناً عن عدد سكان دول وشعوب بأكملها، مثل سيشل، وأيسلندا، ومالطا، والمالديف، والبهاما، وسلطنة بروناي، وغيرهم الكثير.
ونتج هذا الفارق -وهو الأكبر في تاريخ اليابان على الإطلاق- عن سببين، الأول هو انخفاض عدد مواليد 2018 بمقدار 25 ألفاً عن مواليد 2017، ليظل دون رقم المليون للسنة الثالثة على التوالي. أما السبب الثاني، فهو ارتفاع عدد الوفيات لمستويات غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويرتبط السبب الأول، أو انخفاض عدد المواليد بمفهوم معدلات الخصوبة والتوقعات السكانية المستقبلية، حيث إنه من المعروف والثابت في مجال الدراسات السُكانية، أنه كي يظل عدد السكان في مجتمع ما ثابتاً دون تغيير خلال السنوات والعقود المقبلة، فلا بد أن يتساوى معدل الإنجاب على الأقل مع مستوى معدل الإحلال، وهو الحد الأدنى من عدد الأطفال الذي ينبغي أن تنجبه كل امرأة خلال حياتها للمحافظة على عدد السكان ثابتاً.
وهذا المعدل يتراوح حالياً ما بين 2,1 طفل لكل امرأة في الدول الصناعية، وما بين 2,5 إلى 3,3 طفل لكل امرأة في الدول النامية والفقيرة، بسبب ارتفاع معدل الوفيات في تلك الدول. وما يثير القلق لدى البعض، حقيقة أن نصف المجتمعات البشرية -تقريباً- يعاني حالياً معدل خصوبة أقل من الحد الأدنى لمعدل الإحلال. ففي الدول الأوروبية على وجه الخصوص، وصلت معدلات الخصوبة إلى مستويات منخفضة جداً، إلى درجة أن مجتمعات هذه الدول ستشهد انكماشاً سكانياً خلال عقود قليلة، وربما انقراضها التام حتماً، خصوصاً في ظل حقيقة أن أياً من الدول التي شهدت تراجعاً في معدل الخصوبة إلى مستويات أقل من معدل الإحلال، لم تنجح أبداً في عكس هذا الاتجاه، وفي رفع معدل الخصوبة إلى أعلى من معدل الإحلال، أو حتى بقدر مساوٍ له.
وبخلاف انخفاض معدلات الخصوبة، تتنوع وتتعدد أسباب انخفاض عدد السكان، مثل الهجرة الجماعية، وأوبئة الأمراض المعدية واسعة النطاق، والتي تعرف بالجائحة، والحروب والصراعات المسلحة، وخصوصاً التي تستمر لسنوات، وتلتهم الريف والحضر.
ويمتلئ التاريخ البشري بأمثلة عديدة على التراجع السكاني، وأحياناً حتى انقراض بعض الدول، واندثار مجتمعات عن بكرة أبيها. وبرغم أن الحروب واسعة النطاق كانت من أهم أسباب التراجع السكاني في العصر الحديث، إلا أن قبل القرن العشرين كان التراجع السكاني غالباً ما يحدث نتيجة أوبئة الأمراض المعدية، أو المجاعات، أو الهجرة الجماعية. ومن الأمثلة الشهيرة على التراجع السكاني بسبب الأمراض، وباء الموت الأسود في القارة الأوروبية خلال العصور الوسطى، واكتشاف الأوروبيين للعالم الجديد، وحملهم لأمراض لم يعهدها السكان الأصليون، قضت على الملايين منهم في غضون بضعة سنين وعقود. وفي العصر الحديث ربما كان فيروس الأيدز من أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع سكاني واضح في عدد من الدول الأفريقية، أما على صعيد المجاعات فأشهرها المجاعة الايرلندية الكبرى، والتي قضت على جزء كبير من سكان الجزيرة الزمردية، ودفعت بالكثيرين للهجرة الجماعية.
وبرغم أن هذه الأسباب سابقة الذكر، قد تراجعت لحد كبير في العصر الحديث، باستثناء الحروب والصراعات المسلحة، فإن العديد من الدول مثل اليابان، ولاتفيا، وكرواتيا، وليتوانيا، ورومانيا، وأوكرانيا، والبرتغال، والمجر، وغيرهم الكثير، أصبحت تعاني من تراجع سكاني واضح. وحتى دول مثل ألمانيا، وإسبانيا، وسلوفانيا، أصبحت هي الأخرى مهددة بالدخول في مرحلة التراجع السكاني خلال النصف الأول من العقد المقبل.
وكما تتعدد وتتنوع الدول التي تعاني من تراجع سكاني حالي، أو مهددة به قريباً، تتعدد وتتنوع الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة في العصر الحديث، تبعاً لاختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسة لكل منها. وإن كان هذا لا يمنع من أن التراجع السكاني لأي من تلك الدول، وخصوصاً ذات الثقل في المحافل الدولية حالياً، مثل اليابان، وألمانيا، وإيطاليا، سينتج عنها تبعات اقتصادية، وأمنية، وسياسية، وثقافية، سيشعر بتأثيراتها دول وشعوب العالم قاطبة.