قد يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الزعيم الوحيد الذي رحب بإعلان الرئيس الأميركي ترامب المفاجئ الانسحاب العسكري من الساحة السورية، في الوقت الذي أثار القرار الأميركي اعتراضاً واسعاً لدى الحلفاء الأوروبيين التقليديين للولايات المتحدة.
القرار الأميركي، وإن كان مفاجئاً، إلا أنه يندرج في المنطق الجديد للعلاقات الدولية وفق رؤية القوتين العالميتين الرئيسيتين: الولايات المتحدة وروسيا، والتي أثبتتها الأحداث والتحولات الأخيرة، في ما وراء الجدل السياسي والإعلامي المتشعب في الصحافة الغربية حول عودة الحرب الباردة وتجدد الصراع القطبي السابق.
فعلى الرغم من النغمة العدائية التقليدية لروسيا في الخطاب السياسي والإعلامي الأميركي داخل دوائر صنع الرأي والقرار، وفيما وراء الإشاعات حول الدور الروسي وتدخلاته في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة (عام 2016)، فإنه لا مندوحة عن الإقرار بأن الرؤية الدبلوماسية لترامب وبوتين متماثلة في النظر إلى طبيعة العلاقات الدولية من منظور الأولوية القومية على حساب التحالفات والشراكات الثابتة، بما يقرِّب أحياناً بين الدولتين الكبيرتين وفق مسارات ظرفية متبدلة ومعقدة في أغلب الأحيان.
ومن أهم نقاط التقارب بين البلدين الاختلاف مع الأجندة الأوروبية التي لا تزال تحكمها القيم الليبرالية للعلاقات الدولية الموروثة عن النظام الدولي السابق. فإذا كانت روسيا بوتين قد أنهت مسار الاندماج في المنظومة الأوروبية الذي بدأ في عصر الرئيس السابق «بوريس يلتسين»، إلى حد القطيعة الكلية مع دول الاتحاد الأوروبي بعد ضم روسيا إقليم القرم الأوكراني في عام 2014، فإن ترامب أظهر في مناسبات عديدة، منذ تسلمه للحكم، تنصل بلاده من دور الراعي الممول للشراكة الأطلسية، ومن زعامة «العالم الحر»، حسب الاصطلاحات الأميركية التقليدية والتي تنحدر من موروث الحرب الباردة.
لا يتعلق الأمر بتغير جوهري في الخيارات الأيديولوجية والفكرية في فلسفة العلاقات الدولية، بقدر ما يتعلق بالمقاربات والصيغ العملية للشراكة والائتلاف في عالم اليوم.
ولقد سبق لوزير الدفاع الأميركي الأسبق «دونالد رامسفلد» التعبيرَ عن هذا التحول خلال حرب غزو العراق في عام 2003، والتي وقفت ضدها أطراف أوروبية شريكة للولايات المتحدة في الحلف الأطلسي (فرنسا وألمانيا)، وذلك بقوله إن عالم اليوم لم يعد يقبل صيغة واحدة ثابتة للتحالف، بل إن طبيعة المهمة هي التي تحدد نوع التحالف ومكوناته.
ومع أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عاد إلى سردية الشراكة الأطلسية وائتلاف العالم الليبرالي الحر، إلا أن عدة مؤشرات من بينها فكرة الدفاع الأوروبي الموحد التي رجعت بقوة في الأشهر الأخيرة، بيَّنت أن التحول القائم أصبح خياراً لا محيد عنه.
روسيا بدورها وجدت في نهاية الحرب الباردة وتحلل حلف «وارسو» الذي جمع بين دول العالم الاشتراكي السابق، فرصةً غير مسبوقة لتحرير وتسهيل حركتها الدبلوماسية، بما عبر عنه الباحث السياسي الروسي «سرغي كاراغانوف» بقوله إن روسيا كسبت الكثير بتملصها من التحالفات المكلفة التي كانت تقيد حركتها وتفرض عليها توازنات صعبة مع أوروبا الغربية التي أصبحت مضطرة لتحمل هذه التكاليف الباهظة بنفسها.
وكما أن نقطة انطلاق ترامب هي القول بأن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة لتوفير المظلة الأمنية المجانية لأوروبا، وذلك بالنظر إلى أن مصالحها الحيوية لم تعد متوقفة على المجال الحيوي الأوروبي الذي استقل عملياً عنها وأصبح في بعض الأحيان قوة منافسة لها.. فإن الرؤية التي يصدر عنها بوتين هي أن الدور الروسي الجديد يجب أن يتمحور حول حماية وتحصين العالم الروسي بمفهومه الاستراتيجي والحضاري وامتداداته الإقليمية الأوروآسيوية، بما يعني أن الولايات المتحدة ليست خصماً تلقائياً لروسيا ولا عدواً أيديولوجياً دائماً (كما كانت نظرة روسيا السوفييتية).
لقد بين عالم السياسة الفرنسي «برتراتد بادي» أن فكرة الحلف الدولي الثابت تعود للقرن التاسع عشر والنظام الوالستيفي للعلاقات الدولية، وهي فكرة تقوم على محددين هما: العدو الثابت، والزمنية الطويلة للعلاقات الدولية، بما مكن من مأسسة الشراكة الدولية في منظومات ثابتة خلال الحرب الباردة حين كانت قسمة العالم جلية وواضحة.
أما اليوم فقد تبدلت المعادلة، فلم يعد لمفهوم العدو دلالة في عالم شديد الترابط، أصبحت فيه المخاطر كثيفة ومتنقلة ومتقلبة، كما أن الزمن السياسي غدا قصيراً لا يثبت على حال. ومن هنا التغير الدائم للمواقف والتحالفات، بحيث إنه لم يعد للنظام الدولي منطق نسقي مستقر وثابت.
في هذه المعادلة الجديدة، تنفتح آفاق وإمكانات واسعة للقوى الإقليمية التي لا تجد نفسها مضطرة للالتزام بشراكة ضاغطة ومقيدة، بل هي قادرة على الاستفادة من الحركية السيالة والمرنة للنظام الدولي.. وذلك هو الدرس الذي يحتاج العرب اليوم لتأمله في وضعهم الحاضر، اتساقاً مع طبيعة العلاقات الدولية الجديدة.