أنهى الرئيس الأميركي منتصف ولايته بانسحابَين، من سوريا وأفغانستان، يغيّران استراتيجية الولايات المتحدة ومفاهيمها السياسية، وجاء الإعلان عن عزم دونالد ترامب على إجراء قمة ثانية مع كيم جونغ أون ليوضح أن مغادرة الشرق الأوسط الكبير لتعزيز التوجّه إلى شرق آسيا والمحيط الهادئ هو الاستراتيجية الأميركية الثابتة منذ الإخفاق الكبير في العراق. ولا يعادل انسحاب ترامب من سوريا وأفغانستان سوى إحجام أوباما عن التدخّل في الأولى وتردّده في تعزيز القوات في الثانية. أي أنها سياسة واحدة بوجهين وأسلوبين وحتى بدوافع متماثلة، فكلاهما سعى إلى تحديد الأهداف المتوخّاة والمهل الزمنية لتحقيقها، وإذا كان ترامب يدفع إلى الواجهة بتكاليف التدخّلات، فإن هذه لم تغب عن ذهن أوباما الذي كان يبحث عن التداعيات المستقبلية. يتبيّن في النهاية أن لكلٍّ منهما أسبابه لكنهما متفقان على النهج التقليدي للتدخّلات الخارجية في السياسة الأميركية.
كما في كل مرّة، يمكن القول إن أي تدخّل مرحّب به إذا كان غرضه حلّ النزاعات وتحقيق السلام، سواء كان أميركياً أو غير أميركي، غير أن هذا نادراً ما يحصل، فكلّ تدخّل يستدعي تدخّلاً مضاداً ويفرض تعقيدات إضافية لا تلبث أن تطيل أي نزاع أو تعبث بحقائقه وتجعل حلوله أكثر صعوبة. المفارقة أنه مع النموذج الأميركي أصبح ممكناً القول إن الانسحاب بعد التدخّل أو «عدم التدخّل» - إذا صحّ - غير مرحّب به. لماذا؟ لأن الوجود الأميركي على الأرض أقام توازنات ومعادلات بين قوى دولية وإقليمية ومحلية، وارتبطت به - خطأً أو صواباً - تطلّعات الشعوب المعنية إلى السلام والاستقرار. حدّدت أميركا ترامب وأوباما محاربة الإرهاب هدفاً، لكن التقويمات والتقديرات كافةً، بما فيها الأميركية، أظهرت أن هزيمة الإرهاب لم تكتمل بعد، ولذلك فإن الانسحاب الأميركي خطوة قد تهيّئ لهدف معاكس يناسب جماعات الإرهاب والقوى المتوارية وراءها.
ما دام ترامب يغلّب وعوده الانتخابية على واجبات أميركا وصورتها، فإن الأسوأ هو ما يمكن توقّعه منه. لم يعد مستبعَداً أن ينسحب من العراق تقليصاً للتكاليف، ومن كوريا الجنوبية متى وجد أن ذلك يمكن أن يحقّق الأهداف الأبعد مدىً في جنوب شرقي آسيا. ويصحّ في هذا السياق التساؤل عن مصير «استراتيجية احتواء إيران» طالما أن واشنطن أزاحت عقبة من أمام التوسّع الإيراني وإقامة ممر طهران - بيروت عبر بغداد ودمشق، بل طالما أن ضغوطها لإنهاء حرب اليمن أثمرت «تفاوضاً» أممياً مع الانقلابيين. كان الخبراء يقدّرون أن التأثير المستهدف للعقوبات على إيران لن يظهر قبل ستة شهور أو سنة، غير أن مكاسب خطوة الانسحاب ستمكّن إيران من الصمود لفترة أطول. كانت المواجهة مع إيران وتدخّلاتها رتّبت على دول المنطقة أعباء سياسية وأمنية وعسكرية ومالية هائلة وأضافت «استراتيجية ترامب» إليها أعباء أخرى، ومن الطبيعي أن تتساءل هذه الدول الآن عن إمكان انقلاب ترامب على استراتيجيته.
لا شك في أن «تغريدة» الانسحاب دمّرت بثوانٍ معدودة الكثير من حسابات الدول، وأيضاً الكثير من آمال الشعوب. قد لا يكون ترامب مهتمّاً بالجدل حول مصداقية أميركا، لكنه خاطب الشعب الإيراني بنفسه أو بوساطة وزير خارجيته ليلفته إلى أفق جديد، وإلى إمكان التخلص من حكم الملالي، ولا بدّ أن الإيرانيين يشعرون الآن بأن فسحة الأمل تقلّصت، أو هي في سبيلها إلى الزوال. لعل الرسالة نفسها بلغت العراقيين الذين يتوجّسون من التقلّبات الأميركية. أما بالنسبة إلى السوريين فقد جاءهم قرار ترامب في توقيت قاتل، أي في اللحظة التي ينبغي أن يتحدد فيها مصير التسوية السياسية، إذ كان يُنظر إلى وجود الولايات المتحدة في المعادلة باعتباره - خطأً أو صواباً - ضماناً لتسوية متوازنة.
المتفق عليه أن القرار الأميركي بتفويض روسيا في الملف السوري كان ضمنياً مكبّلاً بالشروط ثم أصبح الآن علنياً وعملياً. لكن الترحيب الروسي بخطوة ترامب لا يخلو من استياء ضمني، فالهروب الأميركي يغرق روسيا وحدها أكثر فأكثر في المستنقع السوري، وفي المقابل يحرمها من مساومة واسعة أملت بها دائماً لتشمل سوريا وأوكرانيا وملفات أخرى لكن واشنطن رفضتها. أما الآن ومع إطلاق يدها في سوريا فقد باتت روسيا ملزمة بمراجعة مدى تدخّلها لتتمكّن من إدارة التدخّلات الإيرانية والتركية والإسرائيلية وتوزيع الحصص في ما بينها، وهي مهمّة أوكلتها إليها أميركا من دون أن تستشيرها.