من المؤسف أن حوادث الطرق لا زالت إلى اليوم تشكل أحد الأسباب الرئيسية للوفيات بين أفراد الجنس البشري، وبالتحديد فهي تتسبب في وفاة شخص كل 24 ثانية، مما يجعلها من أهم قضايا الصحة والسلامة العامة من المنظورين الوطني والدولي. وقد أصبحت حوادث الطرق في وقتنا الحالي تحتل المرتبة الثامنة بين جميع أسباب الوفيات، والمرتبة الأولى على قائمة أسباب وفيات الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و14 سنة، وبين البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة. وهو ما يعني أنه بين سن الخامسة وحتى نهاية العقد الثالث من العمر، تحتل حوادث الطرق المرتبة الأولى على قائمة أسباب الوفيات بين أفراد هذه الفئة العمرية الشابة. وبوجه عام، يقع أكثر من نصف حوادث الطرق، وبالتحديد 54 في المئة منها، بين المشاة وراكبي الدراجات الهوائية والنارية على اختلافها.
إن هذا الوضع المأساوي هو ما استعرضه تقرير صدر الشهر الجاري عن منظمة الصحة العالمية، تحت عنوان «الوضع العالمي لأمن وسلامة الطرقات لعام 2018». وقد خلص التقرير الأممي إلى أن هذا الثمن الإنساني الفادح، هو ثمن باهظ يدفعه الجنس البشري حالياً مقابل التمتع بسهولة التنقل والحركة اللذين توفرهما المركبات على الشوارع والطرقات. والمفارقة في هذا الخصوص أن معضلة مميتة كهذه، تتوفر لها في الوقت ذاته حلول فاعلة وناجعة، وذلك في شكل إجراءات وتدابير محددة ومعروفة، وهو ما دفع القائمين على تقرير منظمة الصحة العالمية إلى مناداة ومناشدة الحكومات وباقي الشركاء وأصحاب الصلة بهذا الملف، من أجل بذل مزيد من الجهود الرامية لتطبيق وتفعيل تلك الحلول الوقائية.
وربما كان أكبر دليل على فعالية تلك الإجراءات والتدابير الاحترازية، حقيقة أنه رغم الزيادة العددية في ضحايا ووفيات حوادث الطرق، إلا أنها بالنسبة للزيادة التي حدثت في عدد أفراد الجنس البشري خلال السنوات والعقود القليلة الماضية، تعتبر ثابتة من منظور الحساب النسبي، وهو ما يعني أن تلك الإجراءات والتدابير تتمتع بالفعالية المطلوبة إلى حد كبير جداً.
ومن هذه الإجراءات الوقائية المطلوبة على سبيل المثال لا الحصر: وضع قواعد وسياسات مرورية واضحة وصارمة، بالترافق مع الآليات الكفيلة بتطبيقها وتنفيذها على أرض الواقع، بالإضافة إلى التصميم الذكي للطرقات، وتنفيذ حملات توعية وإرشاد لأفراد المجتمع قاطبة، وهو ما من شأنه أن ينقذ حياة الملايين من البشر خلال العقود القليلة القادمة، ويمنع وفياتهم في حوادث طرق، وحوادث دهس تحت عجلات السيارات.
وتشير العبر والدروس المستفادة من تجارب الدول والمناطق التي نجحت في تحقيق تقدم يذكر على صعيد خفض الوفيات الناتجة عن حوادث الطرق، إلى أن هذا النجاح كان مرده إلى تشريعات وسياسات فاعلة وصارمة في الحد من مخاطر الطرق وسير العربات، خصوصاً تلك الإجراءات الموجهة ضد عوامل الخطر الكامنة خلف حوادث السير، وبالتحديد السرعة الزائدة، والقيادة تحت تأثير المسكِرات أو المخدرات، وعدم استخدام حزام الأمان، وعدم استخدام الخوذات الواقية من قبل سائقي الدراجات النارية والهوائية على حد سواء، وعدم استخدام كراسي السيارات المخصصة للأطفال والرضع.
وفي ذات الوقت، وبالترافق مع تخفيف حدة وأثر عوامل الخطر سابقة الذكر، تمكنت ظروف وعوامل إيجابية من خفض معدلات حوادث الطرق، مثل: توفر بنية تحتية أفضل وأكثر أماناً، مثل الطرق المرصوفة والمزودة بمواقف جانبية، والمسارات المخصصة لراكبي الدراجات الهوائية والنارية، ورفع معايير ومواصفات السلامة في السيارات، بالإضافة إلى تحسين ورفع مستوى الاستجابة والرعاية المتوفرة بعد وقوع الحادث.
وبالفعل يظهر تقرير المنظمة الدولية أن تلك الإجراءات قد ساهمت إلى حد كبير في خفض عدد الوفيات الناتجة عن حوادث الطرق في 48 دولة من الدول متوسطة الدخل ومرتفعة الدخل. إلا أنه لم تنجح أيٌ من الدول منخفضة الدخل في تحقيق أي نجاح يذكر على هذا الصعيد، وذلك بشكل رئيسي نتيجة عدم تنفيذ تلك الإجراءات والتدابير الوقائية المطلوبة للحد من حوادث الطرق المميتة. بل تظل احتمالات الوفاة نتيجة حادث طريق في الدول منخفضة الدخل تمثل ثلاثة أضعاف معدلاتها في الدول مرتفعة الدخل. وتظل أفريقيا على رأس قائمة مناطق العالم التي تبلغ فيها معدلات الوفيات جراء حوادث الطرق أعلى مستوى لها، بينما تحتل القارة الأوروبية ذيل هذه القائمة، بأقل معدلات الوفيات جراء حوادث الطرق.
ويعتبر تقرير العام الحالي، هو الأخير في سلسة من التقارير التي تصدر كل عامين أو ثلاثة أعوام، وتستخدم بمثابة أداة أو معيار لقياس التقدم في تحقيق هدف «عقد السلامة على الطرقات من 2011-2020» والرامي إلى تطبيق وتعميم القوانين والتشريعات والإجراءات الهادفة إلى خفض نسب الوفيات على الطرق، ووقف النزيف البشري السنوي في الأنفس، وفي الأموال أيضاً، بسبب الفاقد الاقتصادي الهائل المصاحب لحوادث الطرق، سواء من فاقد الإنتاجية لمن يلقون حتفهم، أو مَن يصابون بإعاقات شديدة أو مزمنة، أو من خلال تكلفة الرعاية الصحية للمصابين، والتلف الذي يصيب الممتلكات العمومية والخاصة كذلك.