يغلي العالم من حولنا وتزداد التحديات الأمنية الإقليمية، ولا تتوقف سخونة الأحداث في مناطق كثيرة. وبالمقابل يزداد عهد ترامب بروداً في ظل سياسة انكماش يقودها البيت الأبيض، وقد أصبح معظم تركيزه يتجه نحو الحصول على ثمن لما يقوم به، ضارباً عرض الحائط بما ينبغي على الدول الكبرى القيام به دفاعاً عن مصالحها وتأكيداً لحضورها ودورها الطبيعي.
أسبوع ساخن يصعب رصد كل تفاعلاته شرقاً وغرباً. لكن البداية كانت فرنسية بامتياز، في ظل موجة الاحتجاجات التي لا أحد يعلم حتى الآن كيف ستكون مآلاتها، وبخاصة أن زمام الأمور انفلت كثيراً ولم تعد السلطات الفرنسية تواجه احتجاجات عادية. بل وصلت التداعيات إلى مرحلة تعطيل حركة السير وقطع الشوارع وانتقال العدوى إلى دول مجاورة. لكن الأحداث في الشارع الفرنسي تبقى الأكثر ضجيجاً وعنفاً. هذا فيما يرى بعض المحللين أن ما يجري ستكون له تطورات مستقبلية، من شأنها التمهيد لإعادة النظر في بعض قواعد الاقتصاد العالمي، من دون أن يقترح خيال المحللين سيناريوهات قريبة من المستقبل المنظور، على وقع أحداث فرنسا المربكة لأوروبا، وبخاصة أن عدوى «السترات الصفراء» انتقلت إلى بلجيكا وغيرها، في موجه شعبوية لم تتحدد معالمها النهائية بعد.
لكن البرود الأميركي في عصر ترامب يطل مجدداً عبر حدث مفاجئ وهو الإعلان عن انسحاب الولايات المتحدة عسكرياً من سوريا، وإخلائها للروس والإيرانيين و«حزب الله»، في سيناريو لا يختلف كثيراً عن تسليم العراق على طبق من ذهب لإيران. بل إن الوضع في سوريا لا يزال أكثر تعقيداً في ظل حاجة النظام السوري القصوى لحلفاء خارجيين لتثبيت سيطرته الهشة على المدن السورية، ما يعني إطلاق يد إيران والفصائل المسلحة الموالية لها لتتحرك بأريحية في الجغرافيا السورية من دون رقيب أو حسيب.
وبالنسبة للشأن القطري، لا جديد سوى أن الدوحة فتحت الأسبوع الماضي على نفسها باب التقليب في ملفات الماضي التي تدينها. وأضافت إلى أخطائها سقطة كبيرة لا تقبل الغفران، عندما تطاولت على قامة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، صاحب الذكرى الطيبة في وجدان كل إماراتي وكل عربي، ثم تأتي قطر لتسيء إلى ذكراه العزيزة على قلوبنا جميعاً، من خلال الاستشهاد بأقوال مرتزقة مطرودين حتى من بلدانهم، وبذلك تواصل قطر التورط في التضحية بالمهنية الإعلامية، إذ لم يعد القائمون على إعلامها يخجلون من تآكل شرعية قطر وانحسار انتمائها إلى الخليج، في ظل إصرارها على الانسلاخ من محيطها واستبداله بتركيا وإيران، متعمقةً في صناعة الكراهية وصولاً إلى مراحل سوف تعود عليها بالضرر الكبير.
اللاعب الإيراني بدوره يستثمر التوجه الأميركي الذي يقوده ترامب. وكما استثمرت إيران تمرد قطر على البيت الخليجي، تبتهج كذلك بالانسحاب الأميركي من سوريا، لكي تغرس جذورها الطائفية هناك بمبرر مساعدة النظام على محاربة الإرهاب. وتبقى السيناريوهات المتوقعة لما بعد الانسحاب الأميركي غائمة؛ فترامب الذي يبرع في تقديم الفواتير ويريد استلام ثمن أي صاروخ يطلقه، حتى وإن كان من أقدم موجودات الترسانة الأميركية.. قرر أخيراً ترك الساحة السورية لإيران، متجاهلاً أن حصول الدول على مكاسب سياسية يتطلب منها التضحية بالأموال، وأن ثمة فرقاً كبيراً بين إدارة شركة وقيادة دولة عظمى!