في مقالة سابقة وعدت القارئ الكريم بالعودة للحديث عن نفس الحدث بشكل أكثر عمقاً وتجذراً، فهو تطور مهم لا يمكن المرور عليه مرور الكرام دون الدخول في تفاصيله والتركيز على ما حققه الديمقراطيون» بالذات من مكاسب مهمة لم يتوقعها المراقبون للشأن الداخلي للولايات المتحدة. قبل الانتخابات بليلة واحدة فقط كان الرئيس دونالد ترامب هو نجم الساحة السياسية، ومن خلفه الحزب «الجمهوري»، الذي توقع له الجميع تحقيق نجاح ساحق في الانتخابات النصفية الأولى من عهد ترامب. كان الجميع ومن ضمنهم كاتبكم يتوقع قبل ليلة الانتخابات بأن مراكز الحزبين «الجمهوري» و«الديمقراطي» فيها لن تتغير، وبأنه من المرجح للحزب «الجمهوري» أن يبقى صاحب الأغلبية في مجلس الكونجرس النواب والشيوخ.
كان منبع ذلك التيقن يعود إلى ما حققه الرئيس ترامب من نجاحات اقتصادية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وقد تحدثنا في مقالة سابقة عن الصعيد الداخلي وما تحقق فيه للرئيس ترامب، أما على صعيد علاقات الولايات المتحدة بالخارج، خاصة فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة وجلب الاستثمارات الأجنبية إلى الداخل وسوق النفط الخام فقد حقق الرئيس ترامب والحزب «الجمهوري» نجاحات عدة جلبت مليارات الدولارات إلى الاقتصاد المحلي، وأنعشت سوق العمل وأضافت المزيد من القوة والسمعة الحسنة إلى شخصية الرئيس وحزبه. لكن جميع ذلك لم يساعد «الجمهوريين» على البقاء كأغلبية في مجلس النواب.
وهنا لابد من الإشارة إلى أنه توجد حقيقة محيرة حول مزاج الناخب الأميركي غالباً ما تغلب التوقعات، فهذا المزاج لا يسير على وتيرة واحدة، وقد حدثت مفاجآت غير متوقعة العديد من المرات لأن الإنسان الأميركي ذاته محب للتغيير المستمر، ولا يمكن له أن يبقى على موقف ثابت، خاصة في مجال السياسة الداخلية.
بالنسبة لـ«الديمقراطيين» كانت ليلة الانتخابات النصفية لعام 2018 تاريخية بكل المعاني وبطرق شتى، فقد فازوا بالأغلبية في مجلس النواب، ووصل إلى عضوية الكونجرس ما يزيد على مئة امرأة منهم، بما في ذلك رقم قياسي من النساء الملونات، فـ«شاريس ديفيدز وديب هالان» هما أول امرأتين من سكان أميركا الأصليين (الهنود الحمر) تصلان إلى مقاعد الكونجرس، و«أيانا بريسلي» و«جهانا هايس» هما أول امرأتين من الأميركيين الأفارقة تقومان بتمثيل ولايتي ماساتشوتس وكينيتيكت تصلان إلى الكونجرس. و«تشي جيمس» هي أول امرأة أميركية - إفريقية تشغل منصب المدعى العام لولاية نيويورك، وغيرهن كثيرات من اللاتي وصلن إلى مراكز سياسية مهمة نتيجة لهذه الانتخابات. وبالإضافة إلى ذلك توجد مكاسب مهمة لـ«الديمقراطيين» على صعيد الحقوق السياسية والمدنية، فسكان فلوريدا صوتوا لصالح إعادة حق التصويت لمليون شخص من سكانها المحرومين من ذلك، وفي ولاية نيفادا صوت الناخبون لصالح إصلاح عمليات التصويت الانتخابي آلياً، ولم يكن لأي واحد من تلك المكاسب الانتخابية أن يتحقق لولا أن الناس يئسوا بعد هزيمة «الديمقراطيين» في انتخابات عام 2016 وخسارتهم لكرسي الرئاسة والأغلبية في مجلس النواب والشيوخ. إن هذه الأوليات التاريخية التي حققها «الديمقراطيون» مهمة ليس لأن العضوية في الكونجرس أمر هام فقط، ولكن لأن الفائزين الجدد يتوقع منهم أن يجلبوا إلى المجتمع مناظير وأفكارا جديدة ربما هي غائبة عن الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأميركية لأمد طويل.
*كاتب إماراتي