على الرغم من أنَّ الحدة السياسية لمطالبة الرئيس ترامب بخمسة مليارات دولار أخرى من أجل بناء الجدار الذي يريده على طول الحدود الأميركية مع المكسيك، قد لاقت انتقادات واسعة، باعتبار أن الجدار غير عملي، وأن المكسيك لن تقوم بدفع ثمنه أبداً.. فإن الجدران والحواجز عبر الحدود الدولية حولَ العالم ما فتئت تزداد وتنتشر. وبعضها أثبت أنه فعالٌ في مواجهة الإرهاب والهجرة غير الشرعية والحد منهما.
فمنذ بداية القرن الحادي والعشرين، قام 30 بلداً على الأقل بتشييد حواجزَ جديدة من أجل منع دخول المهاجرين لحدودها، وبُنيت بعضٌ من أكثر تلك الجدران كلفةً ودقةً من أجل وقف تسلل الإرهابيين، وهو التسلل الذي أضحى مشكلةً أكثر خطراً على أمن وسلامة الدول عقب الهجمات الإرهابية التي استهدفت الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وبعد حرب أفغانستان في العام ذاته، ثم حرب العراق في عام 2003. وعلى سبيل المثال، فقد قامت إسرائيل ببناء جدران حول الضفة الغربية وعلى حدود أراضي عام 1948 مع قطاع غزة. والهند منهمكة في إكمال حدود محمية حول نقاط اتصال برية مع بنغلاديش. وعقب موجة الهجرة غير الشرعية التي تعرّضت لها أوروبا من الشرق الأوسط، في أعقاب الحرب الأهلية السورية، وحروب أخرى في المنطقة وفي أفريقيا، شيّدت بلغاريا ومقدونيا والمجر حواجزَ على طول حدودها مع اليونان وصربيا من أجل وقف تدفق المهاجرين. وهناك أمثلةٌ أخرى كثيرة يمكن سردُها في هذا الصدد.
والواضح من قائمة الحواجزِ الجديدة هذه، هو أن الاتجاه العام معاكسٌ لما كان متوقعاً في السنوات التي أعقبت 1989، عندما تعرض جدارُ برلين، وهو جدارٌ كان قد صُمِّم من أجل الإبقاء على المواطنين في ألمانيا الشرقية، ومنع مرورهم إلى الغرب، للهدم من قبل المواطنين المبتهجين الذين حرَّروا أنفسَهم من جبروت الدولة الشيوعية. سقوط جدار برلين أعقبَه بسرعة تفككُ «حلف وارسو» وانحلالُ الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة. وفي عام 1995، قامت معظمُ البلدان الأوروبية بتطبيق «اتفاقية شينغن» التي كانت تم إبرامها في عام 1985، والتي تخلت بموجبها عدد من الدول الأعضاء عن عمليات مراقبة الحدود داخل الاتحاد الأوروبي. وكان يؤمل أن تجعل هذه الاتفاقية مفهومَ الحواجز المادية بين بلدان الاتحاد، في نهاية المطاف، شيئاً من الماضي السحيق للقارة.
والواقع أن الحواجز والجدران الجديدة نجحت في بعض الحالات في الحد من الإرهاب والهجرة غير الشرعية بشكل كبير، بل على نحو جذري أحياناً، إلا أن الأقل وضوحاً في هذا الخصوص هو مدى فعالية تلك الحواجز في ردع المهاجرين غير الشرعيين الباحثين عن الغوث الاقتصادي واللجوء السياسي من ظروف صعبة وطاردة وغير قابلة للتحمل في بلدانهم.
ولعل الأمر الواضح في هذا الموضوع هو أنَّ مشكلة ضعف المراقبة والسيطرة على الحدود الدولية بين كثير من بلدان العالم في وقتنا الحالي، أضحت موضوعاً مشحوناً بالعواطف الوطنية، بل بالعواطف الشوفينية في بعض الأحيان، لذلك فإنها أصبحت قضيةً شائكةً سياسياً بالنسبة للعديد من البلدان ونخبها السياسية والإعلامية ورأيها العام، لاسيما البلدان التي تفاخر بسياساتها ومواقفها المرحبة بالمهاجرين والأجانب. لكن المشكلة هي أنه فيما يزال يُنظَر إلى الهجرة الشرعية على أنها ظاهرةٌ مرغوبٌ فيها من لدن عدة دول غربية –ربما باستثناء بريطانيا التي صوّتت لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، جزئياً من أجل وقف الهجرة الشرعية بين الدول الأعضاء– فإن الهجرة غير الشرعية أصبحت موضوعاً شائكاً ومعقداً في معظم البلدان. ومما لا شك فيه أن تعهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال حملته للانتخابات الرئاسية في عام 2016، وبعدها أيضاً، بوقف الدخول غير القانوني إلى الولايات المتحدة، كان ذلك التعهد عاملًا مهماً في فوزه غير المتوقع.
وفي ما يتعلق بالولايات المتحدة نفسها، فإنه من المحتمل أن تتفاقم الأزمة المندلعة بسبب الخلاف حول موضوع الهجرة خلال الأشهر والسنوات القادمة، وذلك بغض النظر عما قد يحدث لرئاسة ترامب. ذلك أن بلدين على الأقل في أميركا اللاتينية -هما فنزويلا وكوبا- يواجهان في الوقت الحالي ظروفاً اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية. وبالنسبة لفنزويلا على الخصوص فإنها باتت على شفا أن تصبح دولة فاشلة، إذ يفر مئات الآلاف من مواطنيها إلى كولومبيا المجاورة وباقي دول أميركا الجنوبية الأخرى، بحثاً عن ظروف معيشية أفضلَ من الأوضاع المتردية للغاية في بلادهم. والكثير من هؤلاء الفنزويليين سيرغبون بلا شك في القدوم إلى الولايات المتحدة.
وإذا دخل العالم في ركود اقتصادي جديد، فإن مستويات الفقر سترتفع والضغط على المواطنين العاديين من أجل الفرار سيزداد. و«الجدار العظيم» الذي يريده ترامب قد لا يبنى أبداً، لكن المشكلة التي تحدَّث عنها لن تزدادَ إلا سوءاً عبر العالم.

*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشيونال انترست» -واشنطن