تُعبر احتجاجات «السترات الصفراء» في فرنسا عن بداية أزمات عميقة ستتعرض لها المجتمعات المتقدمة في طور نموها الحالي لبناء المجتمع ما بعد الصناعي، ما يعني أنها تحمل بين طياتها جوانب اقتصادية وسياسية واجتماعية تنبىء بتحولات ستؤدي إلى تغييرات كبرى في بنية هذه المجتمعات وإدراتها وأساليب توزيع الثروات فيها.
ما يهمنا هنا هو الجانب الاقتصادي، تاركين بقية الجوانب للمتخصصين والمهنيين المهتمين بها، إذ كانت الاحتجاجات التي بدأت للاعتراض على سياسات الرئيس «ماكرون» الخاصة بزيادة الضرائب على وقود المركبات الجزء الظاهر من قمة جبل الأزمات التي يعيشها المجتمع الأوروبي، وبالأخص الفرنسي والناجم عن التداعيات التي تمخضت عن التطور التقني وتأثيره على نسب البطالة وتركز الثروات، ما انعكس على الإدارة المالية للدولة ذاتها، والتي تعاني العجز المالي.
في الوقت الحاضر تعاني الكثير من البلدان خللاً بين العائدات والالتزامات المالية، حيث تتم معالجة هذا الخلل بمستويات متفاوتة بين بلد وآخر، ففي الحالة الفرنسية لجأت الدولة إلى الحل الأسهل، وهو فرض المزيد من الضرائب على الوقود والتي هي مرتفعة في الأصل وتصل إلى 64% حيث تتفاوت ما بين 60-70 في معظم البلدان الأوروبية، وهو ما حول هذه الضرائب إلى أهم مصدر لتمويل الموازنات السنوية هناك، علماً بأن عائدات الضرائب على الوقود تساوي تقريباً عائدات دول الاوبك من صادراتها النفطية.
تنمية الموارد مسألة ضرورية لكافة الاقتصادات، إلا أن هناك أساليب عديدة إلى جانب الضرائب، ففي الحالة الفرنسية سعت الدولة إلى تحقيق هدفين أساسيين، الأول المحافظة على العجز بالموازنة في حدود 3% من الناتج المحلي الاجمالي للالتزام بمعايير الاتحاد الأوروبي، والثاني حشد الموارد المالية للالتزام باتفاقية باريس للمناخ والحصول على أموال إضافية لتطوير مصادر الطاقة النظيفة وتقليل الاعتماد على طاقة الهيدركربون، خصوصاً أن معظم دول الاتحاد الأوروبي وضعت برامج للتحول بصورة كاملة لاستخدام السيارات الكهربائية ومنع سيارات البنزين بحلول عام 2040.
ربما يعتبر ذلك توجهاً صحيحاً، ولكن من المهم معرفة كيف يمكن تحقيق ذلك؟ فالمبالغة في فرض الضرائب له تداعيات سلبية على مجمل الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وربما يؤدي إلى نتائج عكسية فيما يتعلق بهروب رؤوس الأموال وتقلص الأنشطة الاقتصادية وتدني مستويات المعيشة، وهو ما حصل في فرنسا وبلجيكا والدنمارك، والذي تم التراجع عنه مؤخراً بسبب التداعيات التي نجمت عنه، إذ إن تحقيق التوجهات الخاصة بتنمية موارد الموازنة العامة وتقليل الاعتماد على الوقود الهيدركربوني يجب ألا يقتصر على جانب واحد خاص بالضرائب، كما يجب وضع دراسات شاملة وعميقة لانعكاسات الضرائب الجديدة على مجمل الأوضاع الاقتصادية لتجنب عواقبها السلبية قدر الامكان.
في الوقت الحالي يبلغ سعر لتر البنزين في فرنسا 1.51 يورو، وهو الأعلى في أوروبا، علماً بأن الحد الأدنى للأجور يبلغ 1300 يورو، وهو مبلغ متواضع جداً إذا قورن بمستويات الأسعار المرتفعة هناك، ما يعني عدم قدرة معظم الفرنسيين على تدبر الكثير من الأساسيات المعيشية اليومية.
لذلك، فإن التناقضات الخاصة بالانتقال إلى المجتمع ما بعد الصناعي وتقنياته المتطورة للغاية، وما ينجم عنهما من ترسبات اجتماعية سوف تستمر بالبلدان المتقدمة في الفترة القادمة، وهو ما يتطلب معالجة موضوعية لتجنب القلاقل التي يمكن أن تنجم عنه، ودعم السلم الاجتماعي لاستقرار هذه المجتمعات وتقدمها، فالخسائر التي نجمت عن احتجاجات «السترات الصفراء» باهظة جداً، كما زادت أعباء الموازنة لتتجاوز عشرة مليارات يورو، ما سيرفع عجز الموازنة العامة إلى 3.4%، علماً بأن بعض القوى المخربة والفوضوية دخلت على خط الأزمة، وقامت بحرق وتدمير بعض المؤسسات والممتلكات العامة والخاصة، وهو أمر شنيع ومرفوض، وهو مشابهة لأحداث ما سمي بـ«الربيع العربي» سيئ الصيت، والذي للأسف أيدته البلدان الغربية التي تشرب الآن من الكأس نفسه، إلا أن وسائل الإعلام العالمية لم تطلق عليه «الربيع الفرنسي»! لسوء عواقبه وتداعياته.