القانون ولا شيء سواه هو الذي ينظّم، وفق قواعد مُلزمة، حياة الإنسان من ولادته إلى مغادرته، فحتى في تسميته وفي إعلان موته ثمة قانون، وما بين القدوم والرحيل قوانين تنظّم جميع علاقاته مع دولته ومؤسساتها، ومع كيانات المجتمع وأفراده، ومع أهله وأسرته، ومع نفسه أيضاً.
ورغم أن القانون أقرب إلينا من ظلالنا، ولازم ذلك أن نكون على بيّنة من خطوطه العامة، فإنني أعتقد أن ثقافتنا القانونية ليست في مستوى معرفتنا بمجالات أخرى دون أهمية القانون في حياتنا، وأعتقد أيضاً أن هذا الضعف غير ناشئ عن كسل أو إهمال، وإنما عن الاعتقاد بتوافر درجة من المعرفة القانونية تكفي غير المتخصّص ليدبّر شؤونه.
وهذا الاعتقاد بالمعرفة له ثلاثة عوامل في تصوّري؛ الأول أن مفردات القانون تبدو واضحة، فنحن نعرف معنى الرشوة، وخيانة الأمانة، والسبّ، والبلاغ الكاذب، والجريمة الإلكترونية، ومسكن الزوجية، والإعلان، والشهادة، والعلانية، والموظف العام.. لكن التعريف القانوني لكل ذلك ليس بالضرورة التعريف الدارج. والأمر الآخر هو أن الكثير من مفردات القانون لا تعريف لها في القوانين، بل يرد التعريف في اجتهادات فقهاء القانون أو بما استقرّت عليه أحكام القضاء.
العامل الثاني لذلك الاعتقاد هو أن القوانين تتيح لغير المؤهل الإبحار فيها بنفسه، من خلال تمثيل نفسه وهو بصدد إجراء المعاملات القانونية، بما فيها إقامة الدعاوى. وفي المقابل، لا يستطيع الطبيب، فضلاً عن غيره، إجراء عملية جراحية لنفسه. ولا تُقبل من المهندس، فضلاً عن غيره، مخطّطات منزله التي أعدّها بيديه، بل لابد أن تكون عبر مكتب استشارات هندسية. ويصعب على الحلاق، وهي مهنة محترمة بلا شك، أن يقصّ شعر رأسه بنفسه، لكن يمكن للحلاق إقامة دعوى قضائية بنفسه.
ويترك هذا الوضع انطباعاً لدينا بأن عالم القانون لو كان شائكاً فعلاً، لما أتاح بنفسه لغير المؤهلين فيه الدخولَ إليه، ليكون المعنى الذي ينطبع في أذهاننا من جرّاء ذلك أن السنوات الأربع التي يصرفها طالب القانون مضيعة للوقت، رغم أنها ليست كذلك، ورغم أن المؤهل الجامعي مجرد بداية الطريق، ويحتاج دارس القانون نفسه إلى السير طويلاً في المجال القانوني لتثبت أقدامه.
العامل الثالث هو الاستخفاف التلفزيوني والسينمائي بمهنة المحاماة، كما في مسلسل «درب الزلق»، والذي لا يزال يعرض رغم إنتاجه سنة 1977، حيث يصوّر المحامي «بائعاً للكلام». وهكذا في المسلسل الشهير «العتاوية»، حيث المحامي فيه يحمل اسماً هزلياً هو «يكيكي». وكذلك أفلام جماهيرية، مثل «طيور الظلام»، و«حبّ في الزنزانة»، والفيلم الشهير «الأفوكاتو»، وبطله المحامي المهرّج «حسن سبانخ»!
وتأثير هذه الأعمال يتجلى في ربط مهنة المحاماة بالكلام. وحيث أن الجميع لديهم ألسنة، فالجميع محامون بالفطرة، خصوصاً أن المحامي هو الوحيد بين العاملين في الحقل القانوني الذي يُتاح للفرد العادي أن يمارس ما يمارسه من أعمال، أصيلاً عن نفسه، وأحياناً بالنيابة عن غيره. لكن لا يمكن للفرد العادي أن يؤدي عمل القاضي أو وكيل النيابة أو الموظف الذي يعمل في مجال الإدارة القانونية.
يصعب على من يتوهّم أنه محام، لكن لا يجد الوقت ليتفرّغ للقانون كالمحامين، أن يسعى لتثقيف نفسه قانونياً.