سقوط جدار برلين في 1989 كان «نهاية حقبة» بالنسبة للقارة الأوروبية. الآن، وعقب جنازة الدولة التي أقيمت لواحدة من الشخصيات المحورية في تلك العملية، وبداية الانسحاب السياسي من قبل أخرى، من الواضح أن فترة ما بعد الجدار قد مرت أيضاً. والصورة الجيوسياسية في أوروبا أخذت تتبلور على نحو أشبه بفيلم «عودة إلى المستقبل»، إذ يهيمن عليها متنافسان تاريخيان هما: ألمانيا وروسيا.
والحق أنه لولا مواقف الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الأب، فإنه من غير الواضح ما إن كان سقوط الجدار سيؤدي إلى إعادة توحيد ألمانيا، بعد بضعة عقود فقط على حرب عالمية ترك فيها الاعتداء النازي ندوباً واضحة على ذاكرة أوروبا. ومن دون زعامة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منذ 2005 – التي سلّمت زعامة حزبها «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» لشخص آخر الأسبوع الماضي وأكدت أن هذه الولاية ستكون ولايتها الأخيرة - كان تجاوز التوترات مع روسيا فلاديمير بوتين بسبب بلدان الكتلة السوفييتية السابقة في أوروبا الشرقية سيكون أكثر صعوبة.
غير أن المشهد السياسي لأوروبا يشهد تحولات دراماتيكية. فمع وجود بوش في الرئاسة في مطلع التسعينيات، كان يؤمل أن تنتقل القارة، مع نهاية الحكم الشيوعي، إلى كلٍّ أكثر ديمقراطية وتعاونا سياسيا واندماجا اقتصاديا.
ولكن بالنسبة للرئيس بوتين، الذي يوجد في السلطة منذ قرابة عشرين عاما، كان يُنظر إلى التوسيع اللاحق للاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» ليشمل بلدانا في أوروبا الشرقية على أنه تهديد أمني وإهانة سياسية. ولهذا استخدم الضغطَ السياسي والاقتصادي – وفي أوكرانيا، القوةَ العسكرية – في محاولة لإعادة التأكيد على دور روسيا كقوة كبرى.
وفي الأثناء، أخذت أهمية ألمانيا كوزن مضاد تتزايد. فالألمان لطالما كانوا الاقتصاد الأول في أوروبا. ومع إبداء إدارة ترامب لمواقف غامضة تجاه كل من «الناتو» والاتحاد الأوروبي، يرى العديد من الزعماء الأوروبيين في ذلك بداية انسحاب سياسي أميركي من التحالف العابر للأطلسي.
والواقع أن الاتحاد الأوروبي نفسه بات يعاني من الإجهاد، ما يجعل دور ألمانيا أكثر أهمية. فبريطانيا، وباستثناء تحول دراماتيكي وسط حالة عدم اليقين الكبيرة التي تحيط بالبريكست، توجد في طريقها للخروج. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان يدفع في اتجاه مبادرة ألمانية- فرنسية من أجل تجديد الاتحاد الأوروبي وتقويته، يواجه اضطرابا سياسيا في الداخل. وفي غضون ذلك، يتحرك زعماء دول الاتحاد الأوروبي التي كانت تنتمي إلى الكتلة السوفييتية السابقة من أجل كبح الهجرة، وحرية الصحافة، وحكم القانون.
وفي الوقت الراهن على الأقل، يبدو أن ألمانيا وضعت طريقا نحو الاستمرارية الوسطية تحت زعامة "أنجريت كرامب كارينباور، زعيمة «الاتحاد المسيحي الديمقراطي» وخلف ميركل المفضلة. كرامب كارينباور سبق أن تحدثت عن الحاجة إلى تقلد ألمانيا دورا دبلوماسيا أكبر، وإنفاق مال أكثر على جيشها. ولئن كانت كثيرا ما وُصفت ب«ميركل الصغيرة» نظرا لعلاقتها الوثيقة بالمستشارة، فإنها كانت دائماً أكثر صراحة في الدعوة إلى رد على نزوع روسيا المتزايد إلى تأكيد قوتها واعتدائها.
فبعد حجز الروس لسفينتين بحريتين أوكرانيتين في بحر آزوف الشهر الماضي، أشارت كرامب كارينباور إلى إمكانية منع السفن الروسية هناك من الرسو في الموانئ الأوروبية والأميركية. كما عبّرت عن القلق بشأن خط أنبوب مهم، «نور ستريم 2»، لنقل صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا. وعلى الرغم من أن أيا من السياسيين الألمان البارزين لا يشعر بأنه من العملي وقف المشروع في هذه المرحلة، إلا أنها قالت إن خط الأنابيب، ولاسيما بعد الحادث البحري، ينبغي أن يخضع لدراسة «ليس فقط كمشروع اقتصادي، ولكن أيضا كمشروع سياسي». وأشارت، على سبيل المثال، إلى إمكانية فرض الاتحاد الأوروبي لسقف لكمية الغاز المسموح بمرورها عبر الخط.
غير أن لا شيء من هذا يعني أنها، أو بوتين، من المحتمل أن تسعى وراء مواجهة عسكرية إذا أصبحت مستشارة، مثلما يتوقع لها. ولكن بالنظر إلى حالة عدم اليقين بشأن عمق وأمد التحول في مقاربة الولايات المتحدة لأوروبا، فإنه يشير بالمقابل إلى رأي مؤداه أن على أوروبا أن تستعد لتحمل مسؤولية كانت تقع على عاتق الأميركيين بالأساس قبل 1989، ألا وهي: الدفاع عن الاستقرار والديمقراطية في أوروبا، والتأشير على حدود، بخصوص التدخلات أو الاعتداءات أو التهديدات
الممكنة، من شأن تجاوزها استدعاء رد.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»