ترسب في الذهن الشعبي من الموروث التشريعي قدسية النص، وأن النص غاية في ذاته، كعالم مغلق على نفسه، له كيان مستقل عن الواقع. نص لا زمان فيه ولا مكان. الموقف منه: التبجيل والتقديس والعبادة. أصبح النص صورة رمزية للجمود الحضاري، مع أنه صورة لواقع حي ويتحرك، في لحظة واحدة وزمان واحد. أصله إجابة ثابتة على سؤال في الزمان والمكان. النص إجابة على سؤال يطرحه الواقع في الزمان والمكان. لا سؤال لا جواب. لذلك تبدأ كثير من آيات التشريع بفعل ‏«ويسألونك ?عن»: ?الخمر، ?الأنفال، ?الأهلة، ?المحيض.. إلخ. ?ثم ?تأتي ?الإجابة ?بفعلٍ: «قل»، ?وهو ?ما ?سماه ?القدماء «أسباب ?النزول». ?
فإذا ?تغير ?المكان ?والزمان ?تغيرت ?الإجابة ?طبقاً ?للظروف ?الجديدة، ?مع ?الإبقاء ?على ?نفس ?المقصد ?من ?حيث ?الانتقال ?من ?اللين ?إلى ?الشدة ?بعد ?التعود ?على ?الفعل ?أو ?من ?الشدة ?إلى ?اللين ?حتى ?لا ?يتم ?التكليف ?بما ?لا ?يُطاق. ?وهو ?ما ?سماه ?القدماء «?الناسخ ?والمنسوخ»، ?أي ?تطور ?التشريع ?طبقاً ?للزمان ?والمكان. ?ومواكبة ?التغير ?للزمان ?والمكان ?هو ?شرط ?التجدد ?الحضاري.
كثير من التشريعات والأيديولوجيات العربية بحاجة إلى إعادة صياغة طبقاً للزمان والمكان وظروف العصر. ومازالت بعض القوانين سائدة منذ العهد العثماني. ففي كثير من الحالات، خاصة في قانون الأحوال الشخصية، سارت الشريعة في البداية إلى منتصف الطريق حتى يسير العقل البشري النصف الآخر، طبقاً لسرعة تقدم التاريخ أو بطئه. ورغم تغير الزمن والمرحلة التاريخية، فإن الموروث التشريعي القديم لم يتغير؛ بل قدُم عليه العهد.. واحتاج الواقع إلى تشريع جديد أكثر حداثة وجدة ربما وجده في القانون المدني الغربي، والذي قام الطهطاوي بترجمته، قائلا إنه يعبر عن مضمون الشريعة الإسلامية؛ إذ يضع العقل والمصلحة العامة وحقوق الإنسان في المقدمة. والمطلوب الآن للتجدد الحضاري، فكرٌ تشريعيٌ جديدٌ يواكب الواقعَ وتصوراته، ويعبر عن المصالح العامة، ويستأنف الاجتهاد.
ومن الموروث الصوفي تسرب العديد من القيم في الثقافة الشعبية، وأصبحت عاملا مؤثراً في تحديد تصورات العالم وموجهات السلوك. وهي ما عُرف باسم المقامات والأحوال دون تمايز بينها. المقامات مثل الصبر، والتوكل، والورع، والزهد، والفقر، والرضا، والتوبة. والأحوال مثل الخوف، والخشية، والستر، والفناء. وتحولت هذه القيم إلى أمثال عامية مثل: «الصبر مفتاح الفرج»، «الفقر حشمة والعز بهدلة»، «من تواضع لله رفعه»، «ما عايزين إلا الستر».. إلخ. وقد أدت هذه القيم إلى السكون والرضا والقبول والموافقة بالإجماع، فاطمأن الناس إلى مصيرهم المجهول.
وقد أفرزت ظروف تاريخية محضةٌ هذه القيم، منذ الفتنة الكبرى، وتقاتل المسلمون فيما بينهم على السلطة وحطام الدنيا، واستشهد من أئمة آل البيت الكثير، واستتب الأمر لمعاوية ويزيد من بعده.. فأراد الصوفية المقاومةَ في الداخل، بعد أن عزَّت المقاومة في الخارج، واستئناف الجهاد في النفس بعد توقفه في العالم.
وكرر الغزالي الشيء ذاته تقريباً بعد ذلك بنحو خمسة قرون. فقد ضعفت الدولة العباسية وتفككت، وأصبح الصليبيون على الأبواب، فأراد الغزالي تقوية السلطة المركزية، فشرع أيديولوجيةً في «الاقتصاد في الاعتقاد» و«إحياء علوم الدين»، ليحث الناس على القيم الصوفية والمنجيات من المهلكات.
وحاول الكواكبي في العصر الحديث تقديم نقد في كتابيه «أم القرى» و«طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، لكن الوضع الثقافي لا يزال مستمراً على حاله.
التجدد الحضاري مفهوم إيجابي يقوم على الفعل الاجتماعي المقاوم لمظاهر التكلس والجمود القديم.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة