يصنع الإرهابيون فراغاً أمنياً، تؤدي إليه أفكارهم وتصرفاتهم في آن، فإن صنعه غيرهم استفادوا منه أكبر استفادة ممكنة، غير مترددين ولا متحسبين، فأفكارهم تقوم على نفي السلطة الشرعية، لأسباب عدة، ويسوقون في هذا حججاً وذرائع يلبسونها لبوساً دينياً. وهذا النفي يعني إجرائياً رفض الوجود المادي للسلطة، وفي مقدمته الوجود الأمني، إذ إن من شأن مثله أن يطوق الإرهابيين ويحاصرهم ويقلل من فاعليتهم، وفق ما يحوزه من قدرة وإمكانات تحميها الدساتير والقوانين ورضا الشعب عن «الاستخدام المشروع للعنف».
أما تصرفات الإرهابيين فإنها تسعى دوماً في اتجاه استغلال أي ضعف أو نقص أمنى في عملية توغلهم وتعزيز نفوذهم في مناطق يشعرون فيها بالقوة، فإن تصاعد هذا النقص، وذلك الضعف، ليصبح فراغاً جزئياً أو كاملًا، سارع الإرهابيون إلى ملئه، وطرحوا أنفسهم كسلطة بديلة. وقد بلغ هذا المسعى أشده مع تنظيم «داعش» الذي طبق تصوره عن «الإنهاك» و«النكاية» و«إدارة التوحش» في المناطق التي سيطر عليها في العراق وسوريا، وكذلك فعلت الجماعات الإرهابية المسلحة في الجزائر خلال العشرية الدموية التي استمرت طيلة تسعينيات القرن العشرين.
ويعني الفراغ الأمني هنا عدم قدرة الأجهزة الأمنية على بسط نفوذها، الذي تنظمه القوانين أو حتى يقع خارجها في بعض الدول، على كامل التراب الوطني، لاسيما في المناطق الحدودية النائية، التي توصف أحياناً بأنها «مناطق سوداء» Dark Places، تعبيراً عن حالة الغموض الأمني التي تكتنفها.
وقد يكون هذا الفراغ حقيقياً حين ترتفع كلفة تأمين بعض الأصقاع البعيدة داخل الدول تأميناً تاماً، ومن ثم تخفف السلطة بإرادتها من وجودها الأمني المستقر، وتستبدله بأنظمة ضعيفة للرقابة، أو عبر استخدام الدوريات المتحركة، وتوظيف بعض العناصر التي تعمل لحساب الأجهزة الأمنية الشرعية في تتبع نشاط الإرهابيين والمجرمين.
لهذا طالما عانت بعض الدول ذات المساحات الجغرافية الشاسعة من خطورة وجود فراغات أمنية في المناطق الوعرة، مثلما رأينا في حال جبال «تورا بورا» في أفغانستان، و"جبل الحلال" في سيناء، والصحراء الكبرى التي تمتد في دول أفريقية عدة، مثل مالي وتشاد والنيجر، وجنوبي ليبيا والجزائر. فالتنظيمات الإرهابية تروق لها تلك الأماكن التي بوسعها أن تتحرك فيها بسهولة، وتجد مخابئ لها في الكهوف والمغارات أو داخل الغابات مثلما يفعل تنظيم «بوكو حرام» الإرهابي في نيجيريا، حيث يصعب على القوات الأمنية النظامية، شرطية أو عسكرية، أن تحكم سيطرتها على تلك الأماكن.
وما يزيد الطين بلة إن الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية تؤمن، في الغالب الأعم، بفكرة «الوطن البديل» الذي تقيمه في مناطق غير مأهولة، أو قليلة السكان، بعد أن تدعو عناصرها إلى «الهجرة» إليه والتجمع فيه والتدرب على استعمال مختلف أنواع الأسلحة، إما لإقامة «إمارات» تطبق فيها أفكارها، أو من أجل الانطلاق إلى ما تسميه «الفتح» حين تهاجم مناطق متاخمة لتضمها إلى نفوذها، مقتطعة إياها من قبضة السلطة المركزية، أو حتى الترتيب لعمليات إرهابية نوعية في المدن. وأحياناً يحل الفراغ الأمني في قلب المدن، خلال أوقات الصراعات السياسية طويلة الأمد، أو استفحال الغفلة الأمنية، حيث تتمكن التنظيمات المتطرفة من إحلال وجودها كقوة أمنية محل القوة الأمنية الشرعية التابعة للدول، ثم تعلن عن قيام إمارة لها، تفرض فيها تصوراتها وقوانينها الخاصة عنوة على السكان.
وتسلك التنظيمات العصابية الإجرامية الدرب ذاته، مثلما نرى في حال تجارة المخدرات عبر الحدود، ومنظمي الهجرات غير الشرعية، وظاهرة «المطاريد» التي تعرفها مصر، على سبيل المثال، حيث يعتصم مجرمون خطرون وهاربون من أحكام بمغارات في هضبة البحر الأحمر، ويغيرون أحياناً على القرى. ويمكن أن يكون الفراغ الأمني مصطنعاً، ففي إطار الصراعات الدولية، وسعى الإمبراطوريات المتغلبة إلى الهيمنة، تعمد أحياناً إلى خلق ورطة أمنية تقود إلى فراغ في بعض الأماكن، حتى تبرر تدخلها فيها، وربما احتلالها، تحت لافتة تعقب الإرهاب، أو إنقاذ السكان المحليين من بطش الإرهابيين، أو مساعدة الحكومة المركزية على بسط الأمن على ربوع البلاد كافة. وبينما يكون الإقرار بالفراغ الأمني في الحالة الأخيرة واضحاً ومعلناً، فإنه في الحالة الأولى لا يتسم بهذا الوضوح، بل قد يواجه بالإنكار من قبل الأجهزة الأمنية في بعض الدول حتى لا تتهم بالتقصير من قبل السلطة السياسية، خاصة أن الأخيرة تنظر إلى «الفراغ الأمني» باعتباره جزءاً أو فرعاً من «الفراغ السياسي» في البلاد.
ــ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ
روائي ومفكر سياسي ـ مصر