منذ سنوات، أنجزت إسرائيل وما زالت، الكثير من المشاريع في أفريقيا من خلال مجالات عدة على رأسها التكنولوجيا الطبية والزراعة وتقنيات تصفية المياه والتنمية والأمن والتدريب العسكري، أي في كل الاحتياجات الأساسية للقارة الأفريقية. ومعلوم أن هذه المشاريع لا تقدم من أجل «عيون» أفريقيا بقدر ما هي لغاية تعاني منها إسرائيل، أي لفك عزلتها وتحسين صورتها، في ظل تصاعد الانتقاد العالمي تجاه عدوانها المتواصل ضد الشعب الفلسطيني. ومؤخراً، أصبحت أفريقيا تحظى باهتمام كبير لدى الصحف الإسرائيلية في التركيز – زوراً بطبعة الحال – على الزعم بما تسميه «وحدة المأساة» بين (الشعب اليهودي) والشعب الأفريقي الذي عانى من العبودية تماماً كما عانى اليهود «المحارق» والتشريد! كذلك، تسعى إسرائيل للتقرب من أفريقيا كخطوة للرد على محاولات قوى إقليمية أخرى الحصول على موطئ قدم لها في القارة.
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) أفريقيا ثلاث مرات، بينها زيارة في يونيو 2017 لكل من أوغندا وكينيا وإثيوبيا وليبيريا. وخلال هذه الزيارة، كان نتنياهو أول زعيم غير أفريقي يخطب أمام مؤتمر دول غرب أفريقيا، علماً بأن ثلث أعضاء المؤتمر دول مسلمة. ثم في يوليو 2016، تجددت العلاقات مع غينيا، وبعد ذلك بعام اتفق نتنياهو وإبراهيم أبوبكر كيتا، رئيس دولة مالي (البلد المسلم الواقع في غرب أفريقيا)، على إعادة العلاقات الثنائية. ?وفي ?ظل ?التوغل ?الإسرائيلي ?في ?أفريقيا، ?وزيارة ?الرئيس ?التشادي إدريس ?ديبي ?للقدس ?المحتلة ?ولقائه نتنياهو ?مؤخراً، ?يتواصل التغلغل ?الإسرائيلي ?في ?أفريقيا، ?بعد ?توقف بدأ ?منذ ?مطلع ?سبعينيات ?القرن ?الماضي. ?وتكمن ?خصوصية ?زيارة «ديبي» ?إلى ?إسرائيل ?في ?أن ?موقع ?تشاد ?في ?قلب ?أفريقيا ?أولًا، ?وأنها ?دولة ?ذات ?أغلبية ?مسلمة ?ثانياً. ?لذا، ?ليس ?من ?المستبعد ?أنه ?بعد ?إعادة ?تشاد ?علاقاتها ?مع ?إسرائيل، ?فإن ?المزيد ?من ?الدول ?الأفريقية، ?حتى ذات ?الأغلبية ?المسلمة منها، ?ستسير ?في ?أعقابها. ?فالدول ?الأفريقية ?الفقيرة، ?وعلى ?رأسها ?المسلمة ?منها، ?ترى ?حركة ?تقارب ?بين ?إسرائيل ?والكثير من دول العالم، ?فلماذا ?تبقى ?في ?الخلف ?وهي ?المحتاجة ?للتكنولوجيا ?الإسرائيلية ?المتطورة ?في ?مجالي ?الزراعة ?والمياه، ?أكبر ?مشكلتين ?تواجههما ?القارة ?الأفريقية؟
وعلاوة على التعاون الأفريقي الإسرائيلي في مجالي الزراعة والمياه، فإن انتشار التنظيمات المتطرفة جعل دولاً أفريقية تلجأ إلى تحسين العلاقات مع إسرائيل، أولاً لأنها بذلك تضمن المساعدات العسكرية اللوجستية الإسرائيلية «السخية»، وكذلك التدريب العالي، وثانياً تكون موضع رضا الإدارة الأميركية فتستفيد من العلاقات الوثيقة للغاية بين إسرائيل وإدارة الرئيس ترامب. وفي هذا النطاق، كتب «عومر دوستري»، الباحث في «معهد القدس للأبحاث الاستراتيجية»، يقول: «بالنسبة إلى التشاد، الموضوع الأكثر أهمية هو الأمن. فهي تواجه في السنوات الأخيرة تهديدات الإسلام المتطرف من تنظيم (بوكو حرام) النيجيري، وجماعات إرهابية متفرعة عن تنظيم (داعش)». لذلك، تصدَّر موضوع الأمن وتنسيق الجهود من أجل محاربة الإرهاب في القارة الأفريقية، أجندة اجتماعات «ديبي» و«نتنياهو»، حيث أورد موقع «ديبكا» الإسرائيلي أن «الرئيس التشادي سعى، عبر زيارته لتل أبيب، إلى إقناع إسرائيل بالمشاركة في الحرب ضد تنظيمي القاعدة وداعش في أنحاء القارة الأفريقية، ولضمها إلى جهود الولايات المتحدة وفرنسا المكرسة لهذا الغرض في تلك المنطقة».
وهكذا إذن تكون إسرائيل قد شرعت مجدداً بإقامة شبكة علاقات في أفريقيا، لتحطيم ما تسميه «الحصار السياسي الاقتصادي العربي». وقد ساعدها في ذلك ضعف العالم العربي، مع وجود دبلوماسية إسرائيلية نشطة. وعن ذلك، يقول الكاتب الإسرائيلي «الداد باك»: «إن عودة إسرائيل إلى أفريقيا تتاح بفضل إخراج إسرائيل نفسها من العزلة السياسية التي فرضتها على نفسها على مدى فترة طويلة جداً. ينبغي قول الأمور كما هي: إسرائيل تبنت سياسة خارجية سلبية، تركزت على مناطق مريحة تضمنت أساساً الولايات المتحدة وأوروبا. أما التغيير الإيجابي في مكانة إسرائيل الدولية في السنوات الأخيرة، والذي يجري على نحو منقطع عن التقدم في (المسيرة السلمية)، فهو حضورها المتزايد في العواصم الأفريقية أيضاً. وكما حدث في الماضي، يمكن لإسرائيل أن تعطي الكثير جداً لأفريقيا. ولدى أفريقيا الكثير مما تعرضه على إسرائيل».
لقد تمكنت إسرائيل، منذ تسلم نتنياهو الحكم في عام 2009، من اختراق أفريقيا وصولاً إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية المعلنة مع عدد من دولها. وهذا الاختراق، المخطط له بعناية، سينقل العلاقات الإسرائيلية في أفريقيا إلى إطار أكثر اتساعاً وشمولًا، وعندها لن يكون الخاسر سوى القضية الفلسطينية التي ستفقد الكتلة التصويتية الأهم والأكثر ثقلًا، والتي طالما شكلت الدرع الواقية لهذه القضية في وجه المحاولات الرامية لتصفيتها من خلال المنابر الدولية أيضاً.
وهل ستدخل دول الجامعة العربية في «خريف» أفريقي مع وصول «ربيع مبكر» لإسرائيل في أفريقيا؟ وهل إذا دعونا في الوقت الحالي إلى «مواجهة» عربية، أو حتى إسلامية، ضد التوغل الإسرائيلي في أفريقيا، نكون ممن ينطبق عليه القول: «لا حياة لمن تنادي»؟!