صدر لأستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون في واشنطن «صموئيل غولدمان» كتاب جديد عنوانه: «دولة الله، المسيحية – الصهيونية في أميركا». في هذا الكتاب يؤكد المؤلف أن الولايات المتحدة في سياستها في الشرق الأوسط، مأخوذة بنظرية «الملك سايروس». والملك سايروس هو الملك الفارسي في العهد البابلي الذي أعاد اليهود من المنفى إلى فلسطين. بعض الرؤساء الأميركيين اعتبروا أنفسهم سايروس الجديد. وبعض الحركات الدينية – السياسية اعتبرت الولايات المتحدة نفسها «سايروس».
ففي عام 1953 مثلاً، فإن الرئيس هاري ترومان الذي ساعد في إقامة إسرائيل وكان أول من اعترف بها كدولة، قال متسائلاً: ماذا يعني القول إنني ساعدت على خلق إسرائيل! إنني سايروس!
ولم يكن ترومان الوحيد الذي كان يؤمن بهذه النظرية الدينية التي تشكل العمود الفقري للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
في عام 1891 قام الأسقف الانجيلي «وليم أوجين بليك» الذي كان يصف نفسه بأنه «طفل الله المدلل» بزيارة البيت الأبيض، وقدم للرئيس الأميركي في ذلك الوقت «بنجامين هاريسون» التماساً طلب فيه استخدام نفوذه لفصل فلسطين عن الإمبراطورية العثمانية تمهيداً لتحويلها إلى دولة يهودية. يومها وقّع على الالتماس 413 شخصية أميركية مرموقة، بمن فيهم رئيس مجلس القضاء الأعلى «ملفين موللر»، و«وليم ماك كنلي» الذي أصبح هو نفسه رئيساً للولايات المتحدة فيما بعد. كما وقّع عليه كبار الأثرياء الأميركيين أمثال جون روكفلر وج. مورغن.
وفي رسالة الالتماس تلك، وصف الرئيس الأميركي بأنه «سايروس» الجديد. وكان ذلك قبل خمس سنوات من نشر كتاب مؤسس الحركة الصهيونية «ثيودور هرتزل»، ولذلك فإن كثيراً من المؤرخين يعتبرون غولدستون –وليس هرتزل- هو المؤسس الحقيقي أو المؤسس الأول للصهيونية!
وفي عام 1790 قدم رئيس أساقفة «نيوجرسي» دافيد أوستن «اقتراحاً عملياً» لمساعدة يهود العالم على «العودة إلى القدس وإلى فلسطين». وذهب «أوستن» ذاك إلى أبعد من مجرد الدعوة. فاشترى مجموعة من السفن لشحن اليهود حيثما كانوا إلى فلسطين. كما اشترى مجموعة من «العنابر» الجاهزة لتكون مأوى مؤقت لهم، اعتقاداً منه بأن فلسطين هي أرض بلا شعب وبلا عمران.
وقامت تلك المبادرة على أساس أن «سايروس» هو الولايات المتحدة، المهيأة لتحقيق مشيئة الله بإعادة اليهود إلى«القدس». وفي عام 1817 كتب «إلياس بودينو» مساعد الرئيس الأميركي جورج واشنطن كتاباً دعا فيه الأميركيين إلى العمل يداً واحدة من أجل تحقيق وعد الله إلى إبراهيم بعودة اليهود إلى فلسطين. وقال في الكتاب أيضاً إن الشعب الأميركي مؤهل في هذه الأيام القريبة من نهاية الزمن لإعادة شعب الله المختار إلى أرضه الموعودة.
لقد انطلقت الحركة الصهيونية المسيحانية من الولايات المتحدة قبل عقود من ولادة الحركة الصهيونية اليهودية. وقامت على الاعتقاد بأن الرئيس الأميركي – أو الدولة الأميركية- هو سايروس الجديد. ثم إن هذا الاعتقاد يجعل من الولايات المتحدة شريكاً في صناعة «التاريخ الإنجيلي»، رغم أن العالم الجديد لم يرد له ذكر في الأدبيات الإنجيلية. من هنا ليس مستغرباً أن يتصرف الرئيس الحالي دونالد ترامب على أساس أنه هو سايروس القرن الحادي والعشرين. فنائبه «مايكل بنس» نفسه هو من قادة هذه الحركة الدينية التي تعرّف عن نفسها بالحركة «المسيحانية الصهيونية». وسواء كان ترامب مؤمناً بأدبيات هذه الحركة أو غير مؤمن، فان قاعدته الشعبية التي ينتمي إليها، تتماهى مع قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. فالقرار يعزز من نفوذه لدى هذه القاعدة ومن ولائها له رغم كل ما يمر به من تعثر في إدارة شؤون الدولة. فعندما توفي الأسقف بيلي جراهام (عن 99 عاماً) وهو أحد أبرز الشخصيات الدينية في هذه الحركة، حرص الرئيس ترامب نفسه ليس فقط على المشاركة في تشييعه، ولكنه حوّل التشييع إلى مأتم رسمي.
من هنا، فإنه عبثاً فهم القرار السياسي الأميركي في الشرق الأوسط من دون فهم هذه الخلفية الدينية التي تتحكم في صناعة هذا القرار.