الحضارة المصرية، هي الأقدم في التاريخ العالمي، والأكثر لفتاً للاهتمام والنظر. فقد انقضت نحو ستة آلاف سنة على حكم الفراعنة الأوائل لمصر، والتي كانت موحدة على الدوام. لم يكن في هذا البلد فواصل بين تواريخ حضارات «الحجر المصقول» و«المرحلة التاريخية»، بل عندما ابتدأ تاريخ مصر المكتوب، حوالي 3000 سنة قبل الميلاد، كانت مصر قد قطعت مرحلة عامرة من التجارب الإنسانية الفنية. وبحسب المستشرق «جان فركوتتر»، نجد أمامنا تطوراً ملحوظاً حين أخذ «الإنسان» في النشوء، وفي إغناء التجربة الحضارية الإنسانية، ومن ثم إغناء خط التطور التاريخي. فقد أخذ المصريون يعتادون على مجموعة من النشاطات التي راحت تغني حياتهم، إذ بدؤوا مثلاً يستخدمون الصوان بعد تأهيله، ويشملُ ذلك استخدامَه في البناء، وأحياناً في ترميم مواقع من نهر النيل، خصوصاً داخل المدن المسكونة والقريبة منه. وفي هذا السياق، ظهرت أهمية نهر النيل، إذ كان للماء دور حاسم في تأمين الإنتاج الزراعي ومواجهة القحط.
لقد فتحت مصر أبوابها أمام الرواد، وبعض الدخلاء أيضاً، لكنها لم تكن لتقبل بالتدخلات الخارجية، لاسيما من قبل الفارسيين والآشوريين وغيرهم.
وثمة ملاحظة لافتة، وهي أنه عندما ابتدأ تاريخ مصر المكتوب حوالي 3000 سنة قبل الميلاد، بدأت تظهر خطوات مهمة في تاريخ الحضارة المصرية. و«كانت مصر قد حصلت نهائياً على أرضها الزراعية، وكوّنت عناصر دينها، ورسخت لغتها وكتابتها، ووضعت نظمها الأساسية.. والواقع أنه دون النظر في تلك التطورات يستحيل تاريخ فجر المدنية المصرية، والذي يختلط مع ولادة المظهر الإنساني لمصر واستيلاء الإنسان فيها على وادي النيل» (كتاب «مصر القديمة»، تأليف: فركوتر، ترجمة: إلياس الحايك، «منشورات العربية»، ضمن سلسلة «ماذا أعرف؟»، لبنان، 1972، ص: 6).
هكذا إذن نضبط الموقف التاريخي في السيرة المصرية الطويلة، بحيث تتكون لدينا صورة أولية للمقدمات التاريخية في هذه السيرة. إن الذهاب أكثر في تاريخ مصر يفتح أبواباً تحتاج إلى بحوث نوعية، يستعيد الباحث عبرها نقاطاً ومحاور تحتاج دراسات متخصصة متعمقة. «فالمدنية التي تأثرت بكون مصر واحة، تأثرت أيضاً بالمناخ هناك، فلمناخ مصر خصائص فريدة».
وسنلاحظ أن مصر بموقعها في أقصى شرق القارة الأفريقية «كانت نقطة التلاقي بين العالم الآسيوي والمتوسطي والعالم الأفريقي»، لذا كان شكل البلاد المستطيل من الوجهتين السياسية والإدارية يقتضي أن يكون موقع العاصمة في الوسط تقريباً.
وقد لاحظ هيرودوت أن المصريين الذين يعيشون في مناخ فريد، وعلى ضفاف نهر له ميزات تختلف عن سائر الأنهر، اعتمدوا أيضاً عادات وتقاليد تختلف عن عادات وتقاليد سائر الناس وتقاليدهم.
ما أتينا عليه رؤية تعميمية للنقاط الأساسية في تاريخ مصر الحضاري، وإذ ندخل المراحل التاريخية التالية، فسنجد أنفسنا أمام عالم عميق يحتاج مجموعات من الباحثين المتخصصين، لاسيما حال الدخول إلى جوانب وزوايا أخرى من تاريخ الحضارة المصرية.
وتنبغي الإشارة إلى أحداث القرن العشرين لجعلها منطلقاً للبحث في تاريخ مصر، خصوصاً مراحله الانتقالية والأخرى الغائبة في معظم الدراسات المصرية، ونعني هنا البحث في تاريخيها الوسيط والحديث، وما بعدهما، لنكشف عن الخبئ في ذلك التاريخ، وأخص بالذكر ما ترك آثاراً تبقى ذكرى مقترنةً بالإخفاقات التي عاشتها مصر وسوريا في تجربة الوحدة بينهما. فإهمال التدقيق في ما وصلنا إليه، إهمال لا يحتَمل!