في اليوم الوطني للإمارات يعنّ للمرء أن يتساءل هل الإمارات العربية المتحدة دولة مثل بقية دول العالم، أم أن لديها رسالة ذات أبعاد سامية، وإذا كانت أكثر من مجرد دولة بالمعنى الكلاسيكي للدولة، فالفضل يعود لمن ساهم في بناء وإرساء قواعد هذا الصرح الكبير والمهيب؟ الشاهد أننا في سياق البحث، تتجمع الخيوط وتتلاقى الخطوط دائماً وأبداً عند زايد الخير مرة وإلى الأبد، فالرجل هو من أرسى القواعد الخلاقة لوطن بات متجاوزاً مساحته الجغرافية وحقيقته الديموغرافية، وأضحى رمزاً خلاقاً لكثير من المعاني السامية والنبيلة، والتي سنحاول إلقاء قبس من الضوء عليها في السطور التالية.
لعل الركيزة الأولى والأساسية التي مكّنت الإمارات من تجربتها الرائعة، والتي باتت مضرباً للأمثال شرقاً وغرباً هي التسامح، تسامح مع الذات ومصالحة الآخر، فالذات الإماراتية منسجمة بعضها مع بعض، ما جعل الدولة تتسق في بناء رؤيوي واحد، يزخمها إلى آفاق رحبة معرفيةً وعلميةً، وقبلهما إنسانياً ووجدانياً.
أما الآخر فمنذ اليوم الأول لقيام الاتحاد، فقد سعى المغفور له الشيخ زايد إلى إرساء علاقات جوار طيبة، لتتمتع دولته بدرجة عالية من الهدوء والاستقرار، وهما العنصران الضروريان لأي نهضة في أي بقعة أو رقعة حول العالم.
ولعل ما حوّل الإمارات من وطن إلى رسالة، هو إيمانها بأن الوحدة العضوية الأساسية للتجربة الواعدة هي الإنسان، والاستثمار فيه هو الضمان والأمان الوحيد، ولهذا مضت الإمارات طوال نصف قرن في طريق الاهتمام البنَّاء بالعنصر البشري صحياً واجتماعياً تعليماً واقتصادياً، ولعلها واحدة من الدول القليلة حول العالم التي استشرفت مبكراً طرح اقتصاد السعادة، وهو تعبير لم يكن مطروحاً على ساحة التفكير من قبل، وبات معياراً جذرياً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج والازدهار في كافة مناحي الحياة.
تجربة الإمارات تؤكد لنا أن رأس المال الفكري اليوم هو الأداة الأهم في بناء التجارب الأممية الناهضة، والإمارات لا تمتلك من مصادر الطبيعة والثروات وبخاصة النفط، ما تمتلكه دول أخرى سواء في منطقة الخليج العربي، أو أميركا اللاتينية على سبيل المثال، ومع ذلك يفاجأ المرء بالبون الشاسع بين الجانبين، والفاصل هنا هو نوعية البشر، ومدى الملكات الفردية والنصيب من المعرفة والثقافة، من التماهي الإيجابي مع الآخر، من إبداع وإحساس، من مواكبة للتطور التكنولوجي، ومن تطلع لنماذج إدارة تأخذ في عين الاعتبار السباق المحموم بين الإنسان وعامل الوقت، ذلك العنصر الأنفع والأرفع للبشرية منذ أن عرفت سعيها الإنساني على الأرض، إنسانية تجعل منها «مدينة فوق جبل»، تلك التي تحدثت عنها «اليوتوبيا» الأميركية القديمة منذ زمن الآباء المؤسسين.
لم تكن الإمارات «الرسالة» لتتبوأ المركز الذي تشغله اليوم لو لم يكن في طليعتها رجال وقادة يعلمون علم اليقين كيف تدار الأمم في عصر ما بعد النهضة الصناعية، والريع النفطي، قيادات تدرك آليات زمن المعرفة الحقيقية، والتي لا بد لها من أن تمر عبر التخطيط والتنسيق والرقابة، ومنظومات الثواب والعقاب في صورتها العصرانية، قيادة أدركت مبكراً أن التخطيط السليم هو منظومة متكاملة من الأفكار البناءة، والأبحاث المتجددة، وتحليلها والاستفادة بما فيها من مكنونات، ومن ثم بلورة الأهداف، وتالياًِ رسم الاستراتيجيات لتحقيقها، عبر التدريب والحوافز، وصولاً إلى المنتج النهائي بشراً كان أو حجراً.
حين يتحدث صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، عن أحلام إماراتية تطال السماء وتعانق النجوم، وهو الحديث عينه الذي نجده عند صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، يخلص المرء إلى القول إنه كما يكون الراعي تصير الرعية، ولحسن حظ الإمارات أن رجالاتها الكبار يجيدون التصويب عالياً، كما يقول المثل الأميركي، ولهذا فإن حساب الحصاد الإماراتي يأتي دائماً وأبداً مطابقاً لحساب بيدر التسامح والعقلانية والرشد والإنسانية والإبداع والابتكار وما حولها، وإدارته بنجاح تعني إدارة وقيادة ناجعة دون شطط وبلا تهوين أو تهويل. ضمن الأدوات الناعمة التي انتهجتها الإمارات في سعيها لتثبيت أركان تجربتها تجيء إشكالية الصراع الذي ضرب عوالمنا وعواصمنا العربية ما بين الأصالة والتحديث، وقال البعض بأنه إغراق في التغريب أو جنوح إلى الشرق، لكن حكمة زايد الخير رحمه الله، والذي احتفلت الإمارات بمئوية ميلاده طوال هذه السنة، استطاعت أن تقدم نموذجاً غير مسبوق في التوفيق بين هذه وتلك، واضعاً نصب عينيه أين يوجد صالح ومصالح الإنسان الإماراتي، وما الذي يواكب العصر، ومن دون صراع مع حقائق الواقع، ونوازل التاريخ.
تجربة الإمارات الخلاقة تتمثل في إحساس الإماراتيين بأنهم يمتلكون وطنهم، وأنهم ليسوا بغرباء على أراضيهم، وهذه قيمة كبرى في عالم معولم أفقد الدولة المستقلة هويتها، ويحاول إذابتها في أطر أكبر تتصل بالمفاهيم المركنتيلية، أي البيع والشراء والتجارة، غير أن ما لدى الإماراتيين لا يباع ولا يشترى على الطرقات، لديهم عزة وكرامة، ووطن بدرجة رسالة يتمثلها العالم في الحال والاستقبال.
*كاتب مصري