هل كان من الممكن أن تولد وسائل الإعلام الجديدة في ظل بيئة اجتماعية وسياسية مستبدة أو شمولية؟ الإجابة بالطبع لا، فنظم الحكم غير الديمقراطية لا يمكنها التفكير في أداة أو وسيلة تمكن الناس من تداول المعلومات والإدلاء بآرائهم في السياسات الجارية، وتعبئة قطاعات عريضة من الجمهور للاعتراض أو الاحتجاج على القرارات التي تراها ضارة بمصالحها.
كما أن المجتمعات المحافظة والجامدة والمغلقة لن تفكر في وسيلة تفتح بين الناس نوافذَ وأبواباً للتواصل والنقاش في أدق الأشياء، وفي كل ما يعتقد المتشددون الدينيون أنه من قبيل المحرمات، أو تتصور السلطات أنه سيجعل الناس يشعرون، عبر المناقشة الافتراضية المستفيضة، بتضامنهم، ويطمئنون إلى قوة عددهم، وقد يدفعهم هذا إلى تحرك في عالم الواقع للاعتراض على السياسات والقرارات.
وقد أثر أيضاً وجه آخر لليبرالية، يتمثل في شقها الاقتصادي المتعلق بالرأسمالية، على ميلاد الإعلام الجديد (تويتر وفيسبوك ويوتيوب.. إلخ). فروح التعدد والانفتاح والتحرر والتنافس المتفاوتة درجاته، والإيمان بقاعدة «دعه يعمل، دعه يمر»، تبدو هي الإطار نفسه تقريباً الذي يحكم الإعلام الجديد. فشبكة الإنترنت أصبحت توفر بيئة عامة للنقد، ونظاماً لتعبئة الاستياء الاجتماعي، وربما يكون هذا أمراً جيداً في بعض الحالات، لأن كثيراً من وسائل الإعلام الحالية تسيطر عليها الحكومات أو أصحاب الأملاك أو مجالس الإدارات، وبالتالي لم تعد حرية المرور مقصورة على من يملك الإعلام التقليدي، وإنما صارت متاحة أمام كل الناس.
كما أن التطور الرأسمالي ساهم في توسيع الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، الذي سهل العمل الحكومي، وأثّر على متخذي القرار، وخلق على التوازي منافسين لهم في التأثير على صنع السياسة، في مقدمتهم شركات التكنولوجيا التي بحوزتها تقنيات هذا النوع من الذكاء، الذي سيمس، من دون شك، مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والأمنية، وبالطبع فإن يده قد امتدت إلى الإعلام.
لكن نقطة التشابك الأهم هي بين القيم التي ترتكز عليها الليبرالية وبين قدرة الإعلام الجديد على الاستفادة منها وخدمتها في الوقت نفسه، أو حتى مناقضتها أحياناً. ويمكن تصور هذا الأمر في النقاط الآتية:
1- المواطنة: فهذه الفكرة التي تعني المراكز القانونية المتساوية لكل المواطنين، وتقر بحقوقهم وواجباتهم دون تمييز بينهم بسبب الدين أو العرق أو الجهة أو اللغة.. ساهمت في إيجاد «مواطني الإنترنت».
2- حرمة الحياة الخاصة: وأثرت هذه في وجود حيز للتراسل السري الشخصي بين المتداولين على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تمكين أي متداول من تحديد أصدقائه ومتابعيه، وطرده لأي شخص لا يود أن يكون من بينهم.
3- المشاركة أو الانخراط السياسي: وهي قيمة أساسية في الليبرالية، اقتضى تعزيزها وجود الإعلام الجديد، وهو بدوره ساهم في ترسيخها، من خلال إتاحة فرصة كبيرة للناس كي يدلوا بدلائهم في السياسات العامة، بل وفي علاقات الدول، وسط جو من الشفافية النسبية، وإيمان الكثيرين بحقهم في مساءلة حكوماتهم ومحاسبتها.
4- الحريات العامة: فالإيمان بحرية التفكير والتعبير كان أحد الشروط الجوهرية لانطلاق مواقع التواصل الاجتماعي، التي فتحت باباً واسعاً لأخذ ما كان يتحدث به الناس أمام أفراد قلائل، وإلقائه في مجرى واسع جداً.
5- التعددية: وهي قيمة ساهمت في خلق «التفكير الشبكي»، الذي يتيح للمُتعَدد والمتجاور والمتداخل.. مزيداً من التفاعل، وهو أمر يليق بشبكات التواصل الاجتماعي واسعة الترابط.
6- اللامركزية، وهي إن لم تكن بالضرورة طريقة إدارة لازمة لنظام ليبرالي فإنها في جانبها المتعلق بالتفويض، وتعدد المراكز، وتمثيل الأطراف، تصنع بيئة مهيئِة لما يجري في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تتسم بالخصائص نفسها تقريباً.
7- السوق المفتوحة: وهذا الانفتاح لا يخص مجال السلع فحسب، وإنما يمتد إلى الأفكار أيضاً، بل ويصل حد وجود «الحكومة المفتوحة» التي تقوم بواجبها حيال حق الناس في الإطلاع على القرارات وحيثياتها والخطط، عبر نشر المعلومات بطريقة شفافة تسعى إلى الاكتمال، وحقهم كذلك في المشاركة في صنع القرارات ورسم السياسات، عبر أخذ مقترحاتهم في الحسبان.