من السهل جداً على المرء أن يصبح مهووساً بفوضانا السياسية الداخلية. كيف لا والرئيس دونالد ترامب أقال وزير العدل ومدير ال«إف بي آي» بغية حماية نفسه من التحقيق، وحاول محاكمة مدير ال«إف بي آي» ذاك نفسه إلى جانب منافسته السياسية المنهزمة في الانتخابات، ووصف الرئيس الأميركي الإعلام بـ«عدو الشعب»، وانخرط في معاداة الأجانب.
والحاصل أن الديمقراطية باتت محاصَرة في الولايات المتحدة – ولكن ليس في الولايات المتحدة فقط. إنها أزمة عالمية. فالديمقراطية تتراجع في تركيا، وفنزويلا، وتايلاند، وروسيا، وتقوَّض الآن في بولندا، والمجر، والفلبين. وفضلاً عن ذلك، فإن المستشارة أنجيلا ميركل، التي تُعد الحصن الحصين للغرب، باتت في طريقها للخروج في ألمانيا. ورئيس فرنسا الوسطي إيمانويل ماكرون يواجه انخفاضاً في شعبيته. وفي بريطانيا، يمزِّق حزب «المحافظين» نفسه بسبب «بريكسيت»، ما يرجّح احتمال إجراء انتخابات مبكرة يمكن أن تجلب إلى السلطة حزبَ «عمال» يقوده ماركسي جديد.
فما الذي يحدث؟ كيف انتقلنا من آمال «نهاية التاريخ» في التسعينيات إلى مخاوف «نهاية الديمقراطية» اليوم؟ الواقع أننا نواجه أزمتين متقاطعتين: أزمة اقتصادية وأزمة لاجئين.
الأزمة الاقتصادية حدثت نتيجة الثورة المعلوماتية، التي تعمل على تحويل ملامح المجتمع بشكل جذري، على غرار الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. فالثورة الصناعية خلقت ثروات طائلة لعائلات روكفيلر، وكارنيجي، وجولد وغيرهم من «البارونات اللصوص»، ولكنها خلقت أيضاً بؤساً كبيراً لملايين الناس العاديين الذين اضطروا لمغادرة الأرياف من أجل العيش في مدن قذرة والعمل في مصانع تقصم الظهور. والنتيجة هي ما وصفه رئيس الوزراء البريطاني في القرن التاسع عشر بنجامان ديسريلي ب«دولتين» - «الأغنياء والفقراء» – «لا تواصل بينهما ولا تعاطف، تجهلان عادات وأفكار ومشاعر بعضهما بعضاً، كما لو كانتا تعيشان في منطقتين مختلفين، أو تسكنان كوكبين مختلفين».
تفاقم التفاوت الاجتماعي والانسلاخ الاجتماعي اللذين سادا إبان المرحلة الصناعية أنجبا إيديولوجيات راديكالية جديدة مثل الماركسية، والفاشية، والفوضوية تحديداً في الوقت الذي منحت فيه التكنولوجياتُ الجديدة – وخاصة الطابعة التي مكّنت من إنتاج الصحف والمجلات الرخيصة، متبوعة بالراديو والأفلام – أنصارَ الإيديولوجيات الراديكاليين إمكانية الوصول إلى الجمهور لأول مرة.
والواقع أن الثورة المعلوماتية مزعزعة للاستقرار بالقدر نفسه. ذلك أنها تخلق ثروات هائلة لعائلات غيتس، وبيزوس، وجوبس، وزكربرغ، وتعمل في الوقت نفسه على تفقير ملايين العمال. وفي هذا الإطار، وجد عالما الاقتصاد إيمانويل سايز وغابرييل زكمان أن التفاوت في الثروة، وبعد أن سجّل انخفاضاً خلال الفترة من 1929 إلى 1978، ما فتئ يتزايد منذ ذلك الوقت «بسبب صعود حصة ال0.1 من الثروة التي في القمة، من 7 في المئة في 1979 إلى 22 في المئة في 2012، وهو مستوى مرتفع يناهز ذاك الذي كان سائداً في 1929».
هذه الاتجاهات تقف وراءها بشكل رئيس الأتمتة، غير أنه من السهل على الديمغاجويين تحميل مسؤولية ذلك لما يفترض أنها نخبٌ خائنةٌ مثل المصرفيين الدوليين، والشركاء التجاريين الذين يفترض أنهم يغشوننا، والمهاجرين الذين يفترض أنهم يسرقون وظائفنا ويجلبون الجرائم. غير أن الدواء الذي يدفع به الشعبويون المستبدون يفاقم المشاكل نفسها التي يزعمون أنهم يريدون معالجتها، معمِّقين بذلك المشكلة التي تمنحهم الذريعة للحكم.
وبالطبع فإن كره الأجانب سلعةٌ يسهل تسويقها وبيعها في الوقت الراهن لأننا وسط أكبر أزمة لاجئين في التاريخ. فحسب بيانات الأمم المتحدة، ارتفع عدد اللاجئين في العالم من 33.9 مليون لاجئ في 1997 إلى 65.6 مليون لاجئ في 2016. هذه الهجرة الكبيرة حدثت بسبب النزاعات المشتعلة في بلدان مثل سوريا، وأفغانستان، والعراق، والكونغو، والسودان، وليبيا، وأوكرانيا، وبلدان أخرى – وبسب الجريمة والفقر في بلدان مثل غواتيمالا، وهندوراس، ونيكاراغوا. وقد شهدت أوروبا تدفق قرابة 1.2 مليون مهاجر في 2015-2016. وهذه الهجرة هي التي وفّرت الظروف لتمرير البريكسيت وأدت إلى موجة نكوص عن الليبرالية عبر القارة، حتى في بلدان مثل المجر وبولندا اللتين لا تعرفان تدفقاً للمهاجرين.
وتماماً مثلما سهّل التقدمُ التكنولوجي الذي جلبته الثورة الصناعية على كارل ماركس نشر «البيان الشيوعي»، منحت الثورةُ المعلوماتية هؤلاء الشعبيين الوسيلةَ المثالية لنشر رسالتهم، إذ أتاح لهم انتشارُ وسائل التواصل الاجتماعي وتلفزيون الكابل نشرَ البروباغندا بدون عملية التحقق من صحة المعلومة من قبل وسائل الإعلام التقليدية، التي يسعون بخبث لتشويه سمعتها تحت اسم «الأخبار الكاذبة».
إن التاريخ يشير إلى أن الهزات الاقتصادية الكبيرة مثل الثورتين الصناعية والمعلوماتية تأتي وتفعل فعلها ثم تتوارى في الأخير لتترك العالم كله أفضل حالاً. ولا شك أن أزمات اللاجئين ستخفّ إن عاجلاً أو آجلاً. ولكن الكثير يمكن أن يحدث في غضون ذلك. ثم إن أزمة النظام القديم في أوروبا أنتجت 80 سنة تقريباً من النزاعات الدموية غالباً بين الديمقراطية وأعدائها من 1914 إلى 1991. وعليه، فيجدر بنا جميعاً شدّ أحزمة مقاعدنا لأن العالم كله تنتظره طريقاً وعرة أخرى.
*كاتب ومحلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»