الذين يؤمنون بأن العدالة لابد أن تحل ذات يوم، مهما تأخر اليوم، وبأن الظالم لابد أن يحاسَب على ظلمه، وجدوا برهانهم في الأسبوع الماضي. عدالة ناقصة وعرضة للتشكيك؟ نعم، إلا أنها، مع هذا، تبقى نقلة في اتجاه الحقيقة وإحقاق الحق.
الحدث المذكور مفاده أن اثنين من أبرز أقطاب نظام «الخمير الحمر» في كمبوديا، الذين ارتكبوا إحدى أكبر مجازر الإبادة في القرن العشرين، حُكم عليهما بالسجن المؤبد، علماً بأنهما يرزحان أصلاً في الزنزانة بسبب تهم أخرى.
إنهما نائب بول بوت، نون شيا (92 عاماً)، ورئيس البلاد السابق خيو سامفان (87 عاماً). كان ذلك أول حكم تصدره محكمة كمبودية، تشارك في أعمالها الأمم المتحدة، بحق نظام بول بوت ومجازره في كمبوديا.
لكنْ من هم «الخمير الحمر»؟ وما هو النظام الذي أقاموه بين عامي 1975 و1979 ولم يسقط إلا نتيجة غزو فيتنامي لذلك البلد؟
إنّهم قوميون متطرّفون وشيوعيون متطرفون في آن معاً، درس قادتهم، بمن فيهم زعيمهم بول بوت (اسمه الحقيقي سالوث سار)، في فرنسا، حيث اعتنقوا الماركسية اللينية. بعد ذاك انحازوا إلى أعنف أشكال الماوية الصينية وأكثرها تشدداً وتطرفاً، وطبقوها على نحو زادها فظاظة ودموية. لقد راهنوا على بناء شيوعية ريفية تستأصل المدن، وتقيم اكتفاء ذاتياً على قاعدة زراعية، كما تجتث كلّ معارض سياسي أو مختلف إثني. هكذا حلّ بعض إجرامهم على أقليتين: الأقلية الفيتنامية (إبان نزاع كمبودي مرير مع فيتنام) وأقلية «شام» الإثنية المسلمة. الأولى أبيدت بالكامل بين قتل وتهجير، أما الثانية، والمقدرة بمئات الآلاف من السكان، ففقدت أكثر من ثلث عددها. لكن مجموع الذين قضوا في «حقول القتل» الكمبودية قُدر بمليوني شخص أكثرهم من أغلبية الخمير الإثنية ممن توزعوا بين مثقفين وموظفين و«بورجوازيين مَدينيين» ومشتَبَه بهم لسبب أو آخر. هؤلاء كانوا أيضاً يُستأصلون وتُستأصل معهم عائلاتهم.
واستطاع ذلك النظام المتطرف في نزوعه الأيديولوجي أن يجمع بين إبادة الجنس المختلف وإبادة الحزبية أو العقيدة المختلفة. وهو لم يتورع، فضلاً عن القتل المباشر والموت بنتيجة المجاعة التي ضربت البلاد، عن ممارسة أقسى صنوف التعذيب في السجون والزنزانات، وفرض التزويج القسري والإنجاب القسري، والاستعباد والترحيل.
لكن للمسألة وجهاً آخر: فقد اتُهمت المحكمة بالتباطؤ وحامت حول أعمالها شكوك محلية ودولية تتصل بطبيعة النظام السياسي القائم في بنوم بنه حالياً. بعض المراقبين يرون أن جذر تلك المسألة هو شخص «هون سان»، رئيس الحكومة الكمبودية منذ 1985. فالرجل الذي انشق، كضابط صغير، عن «الخمير الحمر»، وهرب إلى فيتنام قبل أن يعود مع الجيش الفيتنامي إلى بلده، لا يختلف كثيراً في تكوينه عن تكوين «الخمير الحمر». صحيح أنه لم يرتكب ما ارتكبوه، كما بدا أشد استجابة لتحولات عالمية وإقليمية، لكنه وطّد نظاماً سلطوياً ذا واجهة انتخابية، ما أتاح له البقاء في موقعه 33 سنة! وهو، بهذا المعنى، يريد أن يحصر المحاكمة برموز العهد السابق البارزين، فلا تتحول إلى محاكمة لمرحلة ولعقلية بعينهما، محاكمةٍ قد تفتح أعين الكمبوديين على جرائم الاستبداد السلطوي المؤدلج.
أما الحجة الرسمية وراء كبح المراجعة فتركز على تجنب الأحقاد الأهلية وانبعاثها بين المواطنين، كما تشدد على ضرورة السير إلى الأمام بعيداً عن البقاء في أسر الماضي وأحقاده. لكن هل يستطيع شعب من الشعوب أن يتعافى فعلاً، بعد تجربة بذلك الحجم المهول، دون أن يراجع ماضيه ويتصالح معه؟ السؤال، بالطبع، يتجاوز التجربة الكمبودية وإن شكلت كمبوديا أحد أهم نماذجه وأشدها حضوراً.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن