لم يكن إعلان المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل تخليها عن قيادة الحزب الديمقراطي المسيحي مفاجئاً. التراجع الكبير الذي مُني به هذا الحزب في انتخابات ولاية هيسن، حيث فقد 11 نقطة دفعةً واحدة، جعل موقفها أكثر ضعفاً. لكن التراجع الذي سبقه في الانتخابات البرلمانية العامة (على المستوى الفيدرالي) في سبتمبر 2017، كان نقطة التحول التي جعلت خروج ميركل من الساحة السياسية عموماً، وليس تخليها عن قيادة حزبها فقط، مسألة وقت. فرغم احتفاظ حزبها بالمركز الأول، كانت نتيجة هذه الانتخابات هي الأسوأ بالنسبة إليه منذ عام 1949. وعندما حدث التراجع في أول انتخابات محلية خاضها حزبها، بعد تلك الانتخابات، أصبح عليها أن تجيب عن سؤال ظل مطروحاً منذ أواخر العام الماضي، وهو: هل تنسحب تدريجياً، أم تتخلى عن قيادة حزبها أولاً، أم تنتظر اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية العامة 2021؟ كان عليها أن تجيب بسرعة، لأن المؤتمر العام لحزبها سيُعقد في 7 و8 ديسمبر المقبل في هامبورج. وأجابت بالفعل عندما أعلنت أنها ستتخلى عن قيادة الحزب أولاً، وبالتالي لن تسعى إلى تجديد انتخابها في هذا المؤتمر، لكنها ستحتفظ برئاسة الحكومة حتى عام 2021.
ليس سهلاً تقييم قرار ميركل، من زاوية مدى قدرتها على الاحتفاظ برئاسة الحكومة حال انتخاب رئيس للحزب يختلف مع توجهاتها. لكن مؤدى قرارها هو تجنب خوض انتخابات داخلية باتت صعبة داخل حزبها. والأرجح أنها توقعت أن يزداد موقفها ضعفاً إذا فازت في انتخابات الحزب بصعوبة، أو بفرق طفيف، ناهيك عن أن تخسرها. لذلك فضلت تجنب خوض هذه الانتخابات والتخلي عن قيادة الحزب بإرادتها.
لكن هل فكرت ميركل في تداعيات انتخاب رئيس جديد يختلف مع توجهاتها على نحو قد يؤثر سلبياً على أدائها في رئاسة الحكومة؟ يصعب تصور أنها لم تفكر في ذلك. لكن ربما وجدت أنها تستطيع احتواء آثار مثل هذا التطور حال حدوثه اعتماداً على مكانتها السياسية في أوروبا، وليس في ألمانيا فقط.
غير أن استمرار ميركل في رئاسة الحكومة الألمانية حتى 2021 لم يعد أكيداً، لأنه سيتوقف على نتيجة الانتخابات الداخلية في ثمانية مؤتمرات حزبية وصولاً للمؤتمر العام الشهر المقبل، وتوجهات الفائز بزعامة الحزب. ورغم أنها لم تعلن انحيازها لأي من الطامحين لخلافتها، فهي تأمل أن تفوز الأمين العام للحزب إنجريت كارينباور التي تتبنى توجهاتها وخطها السياسي. لذلك توصف في ألمانيا بأنها «ميني ميركل».
لكن التنافس في هذه الانتخابات قوي، وقد بدأ فور إعلان ميركل تخليها عن قيادة الحزب، لأن الوقت الباقي حتى موعد إجرائها قصير للغاية. فرصة كارينباور التي يتيح فوزها استمرار ميركل في رئاسة الحكومة من دون منغصات من داخل حزبها، ليست قليلة، رغم أن شخصيتها تبدو باهتة. ميركل نفسها كانت أميناً عاماً للحزب، مثل كارينباور الآن، بين نوفمبر 1998 وأبريل 2000، أي أن وجودها في هذا الموقع فتح لها الطريق إلى القيادة.
لكن منافس كارينباور الأول، فريدريش ميرتيز، يملك فرصة كبيرة هو أيضاً. ورغم أن لديه ثأراً مع ميركل التي أزاحته عن طريقها للصعود إلى قيادة الحزب، ثم انتزعت منه رئاسة كتلته البرلمانية عام 2002، فهو يبدو حريصاً على ألاَّ يخسرها مؤقتاً، إذ أثنى عليها عند إعلان ترشحه.
وقد تضاربت نتائج الاستطلاعات في الأيام الماضية، إذ جاء بعضها في مصلحة كارينباور، بينما وضع بعضها الآخر ميرتيز في المقدمة. وجود مرشحين آخرين يجعل توقع نتائج الانتخابات داخل الحزب صعباً. منطقياً يُفترض أن يخصم وجود أكثر من مرشح محافظ يتبنى سياسات متشددة تجاه قضايا المهاجرين والتنوع الثقافي والعدالة الاجتماعية من رصيد ميرتيز، وفى مقدمتهم جينس سباهن الذي يراهن على الأجيال الجديدة لأنه لم يتجاوز مرحلة الشباب إلا بقليل (38 عاماً). لكن ترشح أرمين لاشيت رئيس وزراء ولاية بنسلفانيا، إذا حسم أمره، يخصم من رصيد كارينباور لأن توجهاته وسياسته في هذه الولاية قريبة من تلك التي تتبناها ميركل.
المهم أن نتيجة الانتخابات التي ستحدد من سيخلف ميركل، لن تقف عند حدود ألمانيا، بل ستؤثر في مستقبل أوروبا كلها، وفي تطورات الأوضاع في منطقتنا في لحظة بالغة الدقة.