ترتفع الآن نسبة التوقعات عن انفراج الأزمة اليمنية وعودة السلام والاستقرار للدولة التي نكبتها الحروب والانقلابات واغتيال الرؤساء، وهي حقبة قاتمة امتدت لأكثر من نصف قرن، كما ترتفع الاحتمالات بنجاح المحادثات اليمنية القادمة بعد أن أعلن «مارتن جريفيث» الوسيط الدولي لليمن أمام أعضاء مجلس الأمن بأنه يثق هذه المرة بعودة الطرفين إلى طاولة المفاوضات، وكان غاية المنى لديه أن يعقد الاجتماع بصرف النظر عن جدول أعماله، وإلى أين تفضي هذه المحادثات، وما هي التوقعات لعقد اتفاق سلام تنتهي على ضوئه كل الأعمال العدائية بين الشرعية والخارجين عليها في لقاء واحد وضربة سلام واحدة، وبما يشبه المعجزة الميتافيزيقية التي لا بد أن يصدقها كل الناس.
وحتى لا نبدو أشد تشاؤماً بعكس ما تنم عنه توقعات المندوب الدولي، دعونا نعرض وجهة نظر تحليلية لا ترتهن للتمنيات، وإنما تخضع للتحليل ولمنطق الأشياء التي يمكن التيقن من حدوثها في مثل هذه الأحوال. والتاريخ مادة متاحة لا يجيد قراءته إلا من عركتهم التجارب وامتلكوا الذاكرة القوية لاستعادة الأحداث.
دعونا نستحضر السيناريوهات المتوقعة داخل قاعة الاجتماعات، والتي تدور بين ثلاثي الأزمة اليمنية الذي يضم الانقلابيين «الحوثيين» والمبعوث الدولي والحكومة الشرعية، وهو ثلاثي لا يتمتع بأدنى درجة من التجانس، كما أن «الحوثيين» ليس لديهم حسن النية، وتأهيلهم الوحيد أنهم يدخلون قاعة الاجتماع ليقولوا ويرددوا ما تمليه عليهم إيران. ولا ندري إذا كان الاجتماع الثلاثي سيبدأ من اليوم الأول بالأطراف الثلاثة دفعة واحدة، أم أن المندوب الدولي كما هو الحال في تجارب سابقة يبدأ بعقد اجتماعات أولية مع الوفود، كل على حدة، ويتم جمعهم بعد الاتفاق المبدئي على جدول الأعمال بلقاء مشترك. وأخالُ أن الوهلة الأولى من اللقاء سيبدأ فيه المندوب الدولي بتقديم رؤيته شارحاً للحضور أهمية اللقاء التاريخي من حيث أنه الوسيلة الوحيدة لحقن دماء اليمنيين، وينبه الطرفين إلى أنه يأتي هذه المرة ومن خلفه الدول الكبرى التي تبدو أكثر إلحاحاً على وقف إطلاق النار لحماية الشعب اليمني المعرض للمجاعة ووقف دمار الاقتصاد ومنع تحويل أرض اليمن إلى كانتونات تحكمها القبائل والميليشيات.
وينتقل الحديث لـ «الحوثيين» الذين يصرون على أن لهم الحديث أولاً، فلا يجد «جريفيث» مفراً من منحهم القاعة، ويتحدث رئيس الوفد بنبرة منغمة كما هي عادة القادة «الحوثيين»، فيطلب على الفور إلزام قوات التحالف بالانسحاب من الجنوب والمناطق الشمالية الأخرى نظير أن يلتزم «الحوثيون» بوقف إطلاق النار، دون منح أي وعد بالانسحاب من مواقعهم الحالية، ويكون هذا الموقف اختباراً لحسن النوايا لاستئناف محادثات الحل النهائي للأزمة وفق شروط يتم طرحها في اللقاءات القادمة، مع التأكيد على استحالة الخوض في قضايا كانسحاب «الحوثي» من المدن وتسليم السلاح والتخلي عن المواقع الحالية لمليشياتهم.
إذاً أولويات «الحوثي» في المحادثات تتركز على الاحتفاظ بالسلاح ومناطق النفوذ، وانتظار الحلول التي لن يرضوا من خلالها بأقل من فرض نفوذهم على إقليم «آزال» على الأقل، وتكوين حكومة نسخة شبيهة بالحكومة اللبنانية، وينقلون فيها نفوذ «حزب الله» إلى الدولة اليمنية القادمة، بحيث يكون الجزء المعطل فيها من نصيب «الحوثيين»، ولديهم القوة العسكرية التي بمقدورها التدخل لتعطيل فرض النظام والقانون، وتنفيذ مشيئة إيران كما يحدث الآن في لبنان والعراق. فهل يرضى فريق الشرعية المفاوض بهذه الاشتراطات المجحفة في حق الدولة الجديدة، ووضعها تحت السيطرة الإيرانية عبر العصابات «الحوثية» أسوة بعصابة «حزب الله» في لبنان و«الحشد الشعبي» في العراق؟
أما السيناريو الأخير، فسوف يبرز وجهة نظر الحكومة اليمنية التي تتمسك بخارطة الطريق التي شاركت في وضعها ثلاث قوى عبر حوارات طويلة ودراسات متعمقة في الشأن اليمني: القوة الأولى برزت من تطور الحركة الوطنية ونجاحها في إدارة حوار وطني طويل، تمخضت عنه قرارات تخص شكل الدولة وبنائها الدستوري، فيما أطلق عليه مخرجات الحوار الوطني. القوى الثانية، هي وثيقة مجلس التعاون التي انبثقت عن حوار يمني طويل، وصيغ للحلول تبنتها دول المجلس، وشكلت فيما شكلت أحد المراجع الوطنية لكيف يكون مستقبل اليمن. أما المرجعية الثالثة، فتتمثل بقرارات مجلس الأمن التي أفصحت بشكل قاطع بأن حكومة هادي هي صاحبة الشرعية في حكم اليمن، وأن الخروج عليها عمل يرقى إلى مستوى الانقلاب.
هذه الثوابت تعكس موقف الحكومة، وتتمسك بها في حوارها مع وفد «الحوثي» في مؤتمر المصالحة القادم. فهل يستطيع الممثل الأممي اختراق اشتراطات «الحوثي» وثوابت الشرعية بما يأتزر به من دعم دولي كبير؟ الشكوك قوية وحيل «الحوثيين» لا حدود لها، ولا مانع لديهم من فناء كل اليمنيين وحكم اليمن بأي ثمن. ومنشأ الشك في التوصل إلى نتائج، مرجعه عدد المرات التي تراجع فيها «الحوثيون» عن وعودهم بالتهدئة وعهودهم التي قطعوها للمندوبين الدوليين الثلاثة. نعم الظروف تتغير والضغوط الدولية تزداد، ولكن العقلية التي يدير بها «الحوثيون» الأزمة من بدايتها، لا تعترف بأي منطق أو عقل أو أخلاق.