بدت رئيسة الوزراء البريطانية «تريزا ماي» ثابتة وقوية على رغم من الانتقادات الشديدة التي واجهتها يوم الخميس الماضي، عندما صمدت لثلاث ساعات تلقت خلالها أسئلة من مجلس العموم الذي بدا محبطاً. وكانت رئيسة الوزراء قد نشرت لتوها مسودة اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، والذي بدا اتفاقاً مذرياً.
فعلى مدار عامين، ظلت «ماي» تعد بخروج من الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يسمح لبريطانيا باستعادة السيطرة الكاملة على حدودها وأموالها وقوانينها جميعاً، بينما يمكن للمملكة المتحدة أن تقوم بالأعمال مع الاتحاد الأوروبي وأن تبرم الصفقات التجارية مع الدول غير الأعضاء في التكتل مثل الولايات المتحدة. غير أن مسودة الاتفاق بدت أقلّ طموحاً. فعلى رغم من أن لندن ستدفع «فاتورة الانفصال» التي تقدر قيمتها بنحو 39 مليار جنيه استرليني (أي نحو 50 مليار دولار أميركي)، إلا أنها قد تبقى خاضعة لقواعد الاتحاد الأوروبي والقيود التجارية لأجل غير مسمى!
وقد تم إعداد مسودة اتفاق الانسحاب في سرية شديدة، لدرجة أن وزراء الحكومة لم يطلعوا على التفاصيل سوى قبل ساعات قليلة من لقائهم يوم الأربعاء لاعتماد الخطة. وهو ما أدى إلى سيطرة الانفعال على الاجتماع، وأشارت التقارير إلى أن أحد الوزراء انفجر باكياً، بينما صاحت رئيسة الوزراء في وجه وزير آخر.
ومن المعتاد أن يتعرض رؤساء الوزراء للانتقاد في مجلس «العموم»، لكن الطبيعي هو أن يتمكنوا من الاعتماد على تأييد نصف أعضاء المجلس على الأقل. وقد بدا الأمر مختلفاً يوم الخميس الماضي، إذ تعرضت «ماي» لانتقادات الجميع من حولها ومن أمامها ومن خلفها وعن يمينها وعن يسارها، مؤيدين للاتحاد الأوروبي كانوا أو معارضين!
وطوال الساعات الثلاث، لم يتعهد بتأييد خطتها سوى مجموعة قليلة من أعضاء البرلمان. وفي هذه الأثناء، استقال وزيران من حكومتها، أحدهم هو الوزير المفوّه والمحنك «دومينيك راب» الذي كان يشغل منصب «وزير بريكست». فإذا كان الشخص الذي يُفترض أنه أشرف على سياسة الخروج من الاتحاد الأوروبي لا يؤيدها، فماذا عسى بقيتنا فاعلون؟
وخلال العام الماضي، استقال 17 وزيراً ومساعد وزير من إدارة «ماي». وفي بعض الأحيان أصبحت الأمور مثيرة للجدل، إذ بدت الحكومة أقل رشداً. ووقعت أحدث المواجهات يوم الخميس الماضي عندما كشفت لجنة حزبية من الأعضاء «المحافظين» المؤيدين لـ«بريكست» عن محاولة لإقصاء «ماي» من قيادة الحزب.
والمرحلة الأولى من هذه المحاولة ستكون تصويت بسحب الثقة، وتحتاج اللجنة الحزبية إلى جمع 48 توقيعاً من أجل إجراء هذا التصويت. وقال «ستيف بيكر» الذي يقود هذه الجهود، للمراسلين يوم الجمعة إنه «كان قريباً جداً» من الوصول إلى عدد التوقيعات المطلوب. ولعل السبب في أنه يواجه صعوبة في الحصول على التوقيعات القليلة المتبقية، هو على الأرجح خشية «المحافظين» من إحداث أزمة يمكن أن تفضي بصورة ما إلى وصول «جيرمي كوربيون» زعيم حزب العمال «اليساري المتطرف» إلى منصب رئيس الوزراء.
وعلى رغم من ذلك كله، حافظت رئيسة الوزراء على رباطة جأشها، وقلما غيرت صيغة ردودها أو حادت عن مواقفها التكنوقراطية. وعندما سئلت عن محاولات الإطاحة بها من قيادة الحزب، لم ترفع «ماي» صوتها أو تحدق بعينيها.
وتصر رئيسة الوزراء على أن بمقدورها إقناع مجلس العموم بالتصديق على هذه الخطة المعيبة. غير أن الحسابات في البرلمان تشي بالنقيض تماماً. فهناك 650 عضواً في مجلس «العموم»، ومن بين 315 عضواً «محافظاً»، من المحتمل أن يصوت ربع هذا العدد ضد خطة الاتحاد الأوروبي التي طرحتها «ماي» ما لم تتغير. ويعارض أيضاً «الحزب الديمقراطي الوحدوي» الذي يمتلك 10 مقاعد، ويمثل ميزان السلطة في البرلمان، الاتفاق، مثل معظم الأعضاء في المعارضة. وتثور حالياً ثائرة النشطاء في حزب «ماي»، إذ يتساءلون لماذا لا تتخذ رئيسة الوزراء موقفاً يعكس بصورة أفضل إرادة الشعب الذي صوت بصورة حاسمة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2016.
ومن المزمع أن تتوقف عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في 29 مارس المقبل. لذا، لم يعد هناك سوى وقت قصير للتفاوض، وعلى رغم من ذلك يبدو الوضع صعباً في لندن، مع رفض «ماي» محاولة تغيير اتفاقها. وتقول إن هناك أحد بديلين اثنين: إما «عدم الخروج» أو «عدم التوصل إلى اتفاق». وعلى رغم من أن رئيس الوزراء الأسبق «توني بلير» يدعو إلى إجراء استفتاء ثان، إلا أن «عدم الخروج» يمكن أن يعني رفضاً للنتائج غير المسبوقة في استفتاء 2016، كما أنه ليس ثمة دليل على أن الناخبين قد غيروا آراءهم بشأن العضوية في الاتحاد الأوروبي. وعدم التوصل إلى اتفاق يمكن أن يؤدي إلى ضرر اقتصادي بالغ، بحسب المحللين.
والنتيجة هي جمود سياسي، وفي هذه الأثناء تستمر عاصفة «بريكست»، وتصدم الأمواج الجميع، ولا تزال «ماي» تراوح مكانها صامدة!
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»