بإشراف البطريرك الراعي وحضوره، التقى الخصمان السياسيان في منطقة شمال لبنان: سليمان فرنجية وسمير جعجع، بمقر البطريركية وتصالحا بعد عداوةٍ استمرت لأربعين عاماً إثر اتهام لجعجع بقتل طوني فرنجية والد سليمان عام 1978. وكان جعجع وقتها من قادة «القوات اللبنانية» التي كان يتزعمها بشير الجميل. وتوالت الأحداث بعد الواقعة، إذ صعد نجم بشير الجميل للرئاسة، ثم غزا الإسرائيليون لبنان (1978، و1982)، وانتهت خلال ذلك فترة رئاسة الياس سركيس فانتخب مجلسُ النواب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، وعند اغتياله قبل أن يتسلم كرسي الرئاسة، اجتمع النواب مجدداً وانتخبوا شقيقه أمين للرئاسة. وبين عامي 1982 و1988 نشب صراعٌ عنيفٌ على منصب القيادة في «القوات»، وجرت تصفياتٌ، إلى أن فاز جعجع بقيادة «القوات» ولا يزال. في 1988 كان المتنافسان الرئيسان على منصب الرئاسة: جعجع والجنرال عون قائد الجيش. وارتأى السوريون أن يُبعَدَ الطرفان، فانتخب النائب الياس الهراوي للرئاسة، وذهب عون للمنفى، بينما ذهب جعجع للسجن، لاتهامه بجرائم أُخرى (مقتل رشيد كرامي، ومقتل داني شمعون..) رغم أنه وقف إلى جانب البطريرك صفير في دعم اتفاق الطائف، بخلاف الجنرال عون. وما خرج جعجع من السجن إلاّ عام 2005 بعفوٍ من مجلس النواب، الذي حصلت فيه قوى 14 آذار على أكثرية إثر استشهاد رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان. وفي العام ذاته عاد عون إلى لبنان، فخاض الانتخابات وحصل على رقمٍ وازنٍ فيها، وصار الزعيم المسيحي الأول في لبنان. وعلى هذه الخلفية، وللتنافر بينه وبين قوى 14 آذار، مضى إلى تفاهُمٍ مع «حزب الله». ومنذ حينه، ظلّ عون حليفاً للحزب ومرشحه للرئاسة، إلى أن حصل عليها عام 2016 بموافقة سعد الحريري. وخلال ذلك جرت مصالحةٌ بين عون وجعجع عام 2015، فصار عون المرشح شبه الوحيد للرئاسة عند المسيحيين أيضاً.
أما بين جعجع وفرنجية فقد تجمدت الخصومة إثر دخول جعجع السجنَ، فيما نشطت البطريركية لإجراء مصالحة. لكنّ شيئاً حاسماً لم يحصل حتى بعد خروج جعجع من السجن، لأنّ الخصومة اندلعت بين جعجع وعون مجدداً، ولأنّ زعامة آل فرنجية محصورة بمنطقة زغرتا- إهدن بأقاصي شمال لبنان بينما امتدت زعامة جعجع إلى سائر المناطق المسيحية في لبنان. فآل فرنجية حلفاء لآل الأسد، وفي الانتخابات الأخيرة حصل جعجع على 15 نائباً بينما حصل فرنجية على 3 نواب فقط! أما الذي استجدّ فهو تزعْزُع اتفاق معراب بين عون وجعجع. وعندما بدأ الحريري بتشكيل الحكومة قبل ستة أشهر، والتي لم تتشكل بعد، كانت عقدة التشكيل الأهمّ أنّ الرئيس وصهره ما قبلوا بإعطاء جعجع غير ثلاث وزارات كلها من الدرجة الثانية. ثم إنّ الرئيس يريد ترشيح صهره جبران باسيل للرئاسة بعده. ولأنّ فرنجية يعتبر نفسه الأَولى بالرئاسة بعد عون، ولأنّ جعجع حظوظه بالرئاسة ليست قوية، لأنّ الأكثرية في مجلس النواب لـ«حزب الله» وحلفائه وللتيار الوطني الحر، فقد فكّر بالانتقام من عون وباسيل بالوقوف إلى جانب فرنجية في معركة الرئاسة القادمة، فاحتاج الأمر لمصالحة تُنهي النزاع القديم، وتُساعد في التحالف ضد عون وباسيل.
تاريخ الصراع على رئاسة الجمهورية بين الموارنة في لبنان، تاريخٌ مغموسٌ بالدم والنزاعات المريرة. وحتى الرئيس فؤاد شهاب، الذي افتتح عهود وصول قادة الجيش للرئاسة، إنما أمكن وصوله لأنّ زعماء المارونية السياسية كانوا مهشَّمين بسبب النزاع الداخلي (1957-1958)، ولأنّ الولايات المتحدة وجمال عبدالناصر تدخلا لصالحه. وقد اصطفّ هؤلاء الزعماء الطامحون والمتنازعون ضد تياره المعتدل والتصالُحي وفازوا في مناطقهم بانتخابات 1968، كما استطاعوا إيصال أحدهم للرئاسة عام 1970 وهو سليمان فرنجية الجد. وفي التسعينيات تحكّم السوريون بمن يأتي للرئاسة، فجاء الهراوي المدني، ثم قائد الجيش أميل لحود حليفهم.
الوزير باسيل يتجول بين لبنان وسوريا وأوروبا، ويحاول الوساطة بين نصرالله والحريري، معتقِداً أنّ ذلك يرجّح حظوظه في الرئاسة. والمراقبون الخبثاء يقولون: إنّ المعركة على رئاسة الجمهورية مبكرة الآن، لكنّ هذا ليس رأْي جبران ولا فرنجية ولا جعجع.