حين قررت الأمم المتحدة اعتبار السادس من نوفمبر من كل عام يوماً للاحتفاء والاحتفال بالتسامح العالمي، كان ولا بد في خلفية القائمين على اتخاذ القرار ما وصلت إليه البشرية من أوضاع إنسانية تحتاج مراجعة خلاقة، تدفع في إطار هدم الجدران وبناء الجسور بين مختلف الأمم والشعوب، والهدف الأكبر هو إشاعة التسامح وإفشاء السلام، من خلال تقليص مساحات الكراهية، وتعميق فسحات الود والتضامن البشري.
ولعل الناظر إلى الخريطة الدولية اليوم يدرك أن دولاً بعينها وجماعات وأفراد ومنظرين ومفكرين باتوا كمن نذر نفسه ليضحى حجر عثرة لا حجر زاوية في البناء الأممي الإنساني، هؤلاء الذين مضت بهم الأقدار في إطار تسليع الإنسان، عبر رأسمالية متوحشة، ونيوليبرالية تقزم من شأن كل ما هو أخلاقي وإنساني وقيمي. وعلى العكس من النموذج السلبي المتقدم يمكن للناظر بعين محققة ومدققة أن يرصد دولاً بذاتها باتت رمزاً لتسامح الأوطان وتعايش الإنسان، وفي المقدمة منها دولة الإمارات العربية المتحدة التي صارت مثالاً خلاقاً لبناء الجسور في منطقة مشتعلة، أضحى الموت فيها عادة كما يُقال، وباتت الرغبة في التعايش المشترك متقلصة إلى أبعد حد ومد. منذ أيام قلائل، وخلال استقبال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لرئيس وزراء جمهورية بلغاريا «بويكوف بوريسوف» كان يؤكد على أن الإمارات تمكنت، بفضل الله، من أن تبني جسور التواصل مع مختلف الدول الصديقة، وفق مبادئ التسامح والتعاون والانفتاح تجاه الآخرين، وبما يؤدي إلى خدمة المصالح الإنسانية المشتركة.
والشاهد أن ما وصلت إليه الإمارات، وما رسخته من نموذج يتحدث عنه العالم، ما هو إلا ثمرة لبذرة زرعها زايد الخير، الذي عُرف بتسامحه وتصالحه مع الذات ومع الآخرين، واستطاع أن ينشئ اتحاداً قوياً على قلب رجل واحد مذيباً للخلافات، ورافعاً راية علم الإمارات الموحدة خفاقاً. ما زرعه زايد الخير منذ قرابة خمسة عقود تعهده بالسقي والرعي من بعده أبناؤه والأجيال الإماراتية المتعاقبة، ولهذا ترسخت رسالة الإمارات وباتت تُشع على ما حولها بمشاعر فياضة من قبول الآخر. أعظم ما في التجربة الإماراتية ليس النموذج الاقتصادي على نجاعته، ولا التكنولوجي وقد بلغ حد صناعة الأقمار الاصطناعية وإرسالها إلى الفضاء، بل النظر إلى الإنسان نظرة منزهة عن كل تعصب عرقي أو تمايز جنسي، ومن دون تحزب ديني أو مذهبي.
نظرتْ الإمارات والقائمون عليها- طوال العقود التي أعقبت إعلان الاتحاد- للإنسان على أنه القضية، وهو الحل في الوقت ذاته، وفي صدر تلك النظرة رؤية إيمانية خلاقة ترى في الإنسان خليفة الله في الأرض دون تفرقة بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى.
مثير جداً شأن الإمارات اليوم، ففيما هي تفتح الأبواب واسعة للآخر المغاير، نجد حول العالم ارتدادات عكسية ضد مسار الإنسانية نحو الأفضل. أما الارتدادات، فتتمثل في صعود القوميات ونشوء وارتقاء العصبيات، بل بات البعض يُقتل على أبواب دور العبادة، وها هي لهجة العنصرية والعداء للسامية، بل وملامح عودة الفاشية، والتعبير هنا لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، تكاد تحيل العالم إلى جحيم مقيم، وبات الآخر بالفعل «هو الجحيم»، على حد وصف الفيلسوف الوجودي الفرنسي «جان بول سارتر»، وأضحى الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» ذات مرة. الذين يسعون إلى الإمارات اليوم يدهشهم هذا القدر الكبير للغاية من التسامح إلى الدرجة التي جعلت ترتيبها في مقدمة الدول التي تيسر لمواطنيها ومقيمها أكبر وأعمق درجة من حرية ممارسة الشعائر الدينية، فعلى أرضها بُنيت الكنائس وحتى المعابد الهندوسية.
استطاعت الإمارات وخلال سنوات قليلة وعقود أقل أن تقدم نموذجاً متكاملاً للتسامح والتعايش، بين أصحاب المذاهب والديانات المختلفة، وهي بهذا تجاوزت فكرة التسامح مع الحجر، إذ جعلته في خدمة البشر، بما يعني أن أقوالها تتماشى مع أفعالها، وكان من الطبيعي جداً في هذا الإطار أن تكون المحصلة عبارة عن نموذج اقتصادي واجتماعي، ثقافي وإنساني من أنجح النماذج وأفعلها حول العالم، فقد حققت أعلى معدلات السعادة، وقدمت أفضل نمط للحياة يسعى البشر من مختلف بقاع الأرض للعيش فيه. عصرانية الدولة الإماراتية جعلت فيها القانون سيد الكل ورائد الجميع، ولهذا رأينا صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حريصاً كل الحرص على إصدار قانون مكافحة الكراهية وتجريم التمييز، ونبذ وازدراء الأديان.
ويصف المؤرخون «حلف بني ياس»، الذين هم أجداد أهل الإمارات اليوم بالقول:«إنهم أقوياء عند الشدائد متسامحون يحبون الضيف ويكرمونه، ويغيثون الملهوف ويساعدونه، وهم على ذلك متمسكون بدينهم، غير منكرين على الآخر حق العبادة». الخلاصة أن التسامح الإماراتي وصفة خاصة في عالم مليء بالأحقاد، ووصفة ناجعة لدولة مجتمعية تعرف السعادة طريقها إلى قلوب أبنائها والتسامح دربه إلى عقول قاطنيها.
*كاتب مصري