وبّخ الرئيس الأميركي دونالد ترامب «جيروم باول» رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي «البنك المركزي الأميركي»، على الملأ وبقسوة، بسبب ما يعتبره الرئيس زيادات مضللة في أسعار الفائدة تهدد استمرار النمو الاقتصادي. وإلى جانب كثير مما يقوله ويفعله ترامب، فإن هذه الطريقة في إدارة الأمور ستؤدي إلى نتائج عسكية، بغض النظر عن أي منافع قد تكون كامنة وراء موقفه الأساسي.
فليس ثمة رئيس بنك مركزي يقبل بتوجيهات سياسية، خاصة عندما تأتي من رئيس يواجه انتخابات صعبة. وأي بنك مركزي يبدو خاضعاً للمخاوف السياسية سرعان ما سيفقد مصداقيته في الأسواق، وهو ما سيسفر عن زيادات في توقعات التضخم، وارتفاع في أسعار الفائدة على المدى الطويل. ومثلما اعتاد البعض منا في وزارة الخزانة على تذكير السياسيين في البيت الأبيض أثناء إدارة كلينتون: «إن تعنيف الاحتياطي الفيدرالي لعبة خاسرة»، والشعور بأن أجندته مسيسة سيزيد الاضطرابات، وهو أمر سيؤدي إلى تقلص الاستثمارات، ومن ثم تباطؤ النمو في نهاية المطاف.
لذا، يرتكب ترامب خطأ خطيراً بأسلوبه تجاه «البنك المركزي الأميركي». لكن لا يزال هناك سؤالان: الأول: ما مدى السرعة التي ينبغي أن يرفع البنك المركزي بها أسعار الفائدة خلال الأشهر المقبلة؟ والثاني: إذا كنّا نقرّ بأن تعنيف «المركزي» لعبة خاسرة، فكيف ينبغي أن تكون العلاقات بينه وبين الفرع التنفيذي للحكومة؟ وفي كلا السؤالين، لا يبدو التفكير الجامد ملائماً بالنسبة لي.
فبالنسبة للسؤال الأول، يبدو خطر كبير أن يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة بسرعة شديدة أكثر من اللازم على نحو يؤدي إلى تباطؤ النمو خلال العام المقبل. فلا مفر من أن السياسات النقدية هي رأي بشأن المخاطر المتنافسة. وإذا رفع البنك المركزي أسعار الفائدة ببطء شديد، فإن التضخم سيزيد وسيظل أعلى من الهدف المحدد عند 2 في المئة لفترة كبيرة. ولا ينبغي أن يكون ذلك محط قلق مُهم، فالتضخم ظل دون المستوى المستهدف لمدة عشرة أعوام، لذا، فإن ارتفاع التضخم أعلى من المستهدف ضروري إذا كان هدف التضخم على المدى الطويل سيكون عند متوسط 2 في المئة.
مخاطر التشديد النقدي المفرط تبدو كبيرة، فالسياسات النقدية تؤثر على الاقتصاد الحقيقي بتفاوت زمني يصل إلى عام أو أكثر. وبناء على ذلك، من السهل تشديد السياسات عند المرحلة التي يتجه فيها الاقتصاد نحو الركود بسبب غياب المؤشرات الواضحة على التباطؤ. وخلال الأعوام الـ50 الماضية، عندما شدد «الاحتياطي الفيدرالي» السياسات النقدية بطريقة ثابتة، كانت النتيجة حدوث ركود. ومخاطر التراجع الآن أكبر من أي مرحلة يمكن تذكرها، خصوصاً في ظل الضغوط الشعبوية والحمائية التي عادة ما تصاحب أي تراجع اقتصادي، لذا يتوجب الحذر في الوقت الراهن. ثانياً: هناك حاجة للبراجماتية بشأن استقلال البنوك المركزية. ومن المهم أن نقاوم ذلك النوع من الضغوط لتبني سياسات تؤدي إلى التضخم، كتلك التي اقترحها ترامب مؤخراً. لكن من الحماقة أيضاً أن نفترض أن السياسات المالية في الدولة ينبغي أن تحدد بصورة مستقلة تماماً عن مسؤوليها المنتخبين.
ولنأخذ بعض النماذج على سبيل المثال: أثناء فترة التيسير الكمي بعد الأزمة المالية، كانت وزارة الخزانة تسعى لتطبيق استراتيجية تمديد مدة الديون الحكومية الأميركية. وفي الوقت ذاته، تسعى إلى تقديم حزم تحفيز نقدي، غير أن «الاحتياطي الفيدرالي» كان يعمل في الاتجاه المضاد، بإصدار ديون لآجال قصيرة وشراء الديون طويلة الأجل. وبالتأكيد كان من شأن تنسيق السياسات أن يقلص تكاليف المعاملات ويخدم المصلحة العامة.
وبالطبع، ستتكرر في المستقبل المناسبات التي يتم فيها تقليص أسعار الفائدة إلى الصفر أو إلى مستوى قريب من الصفر. وفي هذه الظروف، ربما يكون تنسيق السياسات النقدية والمالية ضرورياً. ويكون ذلك صعباً جداً إذا كانت سياسات «الاحتياطي الفيدرالي» مستقلة تماماً عن سياسات الموازنة. وليس المقصود أن تصبح البنوك المركزية أكثر خضوعاً أمام الضغوط السياسية. وإنما لا بد أن يكون هناك تنسيق بينها وبين الحكومات المنتخبة، خصوصاً عندما تتجاوز أنشطتها مجرد السياسات النقدية.

يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»