أثبتت التجارب ووقائع التطورات السياسية منها وحتى العسكرية، على مر التاريخ لعدة عقود خلت، أنْ العلاقات الدولية تكون دائماً مرهونة باستخدام «الاقتصاد» من أجل تحقيق أهداف «السياسة»، مهما كان نوعها وتوجهاتها، وما يتطلب ذلك من رصد أموال تكون أحياناً بلا حدود، لتمويل عمليات عسكرية، أو صفقات أسلحة متنوعة من شأنها أن تسهم في إحداث تغييرات «جيوبوليتيكية»، وهذا ما تشهده حالياً العلاقات الدولية التي تتحكم بتطورات منطقة الشرق الأوسط.
عندما بدأت روسيا تدخلها العسكري في 30 سبتمبر 2015، في سوريا، كانت الاعتبارات السياسية محفزها الأساسي، أكثر منها تلك الاقتصادية، ولكن مع ترسيخ موطئ قدمها تدريجياً، وجدت أمامها فرصة كبيرة لتوسيع نفوذها وضمان مصالحها في المنطقة، واليوم، بعد نيف وثلاث سنوات، ماذا حقق فلاديمير بوتين من نصيحة القيصر بطرس الأكبر (وهو من أعظم القياصرة الروس) منذ نحو 400 عام؟ تقول النصيحة إذا أرادت روسيا أن تبقى أمة قوية عظيمة، عليها أن تحقق ثلاثة شروط في سياستها الخارجية: أولًا، عليها أن تصل إلى المحيط الهادي، حتى لو اضطرت إلى الصراع مع الامبراطوريه الفارسية. ثانياً، عليها أن تصل إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، حتى لو اضطرت إلى تقويض الامبراطورية العثمانية. وثالثاً، عليها أن تقيم أفضل العلاقات والتحالفات مع سوريا، نظراً لموقعها «الجيوستراتيجي» الذي يربط ثلاث قارات آسيا، أوروبا، وأفريقيا.
لذلك تعتبر سوريا أهم حليف استراتيجي لروسيا في المنطقة منذ أكثر من ستين عاماً، وموسكو تدير من خلالها جزءاً مهماً من سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، وهي (أي سوريا) تمثل قاعدة مهمة للمصالح الاقتصادية والعسكرية الروسية.
في يناير 2017 أبرمت روسيا وسوريا اتفاقاً يمتد على 49 سنة، قابلة للتمديد لأكثر من 100 سنة، ضمن استثمار روسي كبير في مشاريع طاقة (نفط وغاز وخطوط أنابيب). ويمكن أن يساعد هذا الاستثمار، على ضمان مصالح روسيا النفطية والغازية في العراق حيث وقعت شركة «سترويتر انسغاز» اتفاقاً مع بغداد لإعادة بناء خط كركوك بانياس. أما في لبنان فقد دخلت شركة «نوفاتك» الروسية بشراكة بلغت نسبتها 20 في المئة، في التنقيب واستثمارالبلوكْيّن رقم 4 في الشمال ورقم 9 في الجنوب.
إن حوض البحر المتوسط هو بين المناطق «الأغنى» في العالم بالغاز، ومن يملك سوريا، يملك الشرق الأوسط، وبوابة آسيا، ومفتاح بيت روسيا (حسب كاترين الثانية)، وأول طريق الحرير (حسب استراتيجية الصين)، فهو يستطيع أن يتحكم بالنظام الاقتصادي العالمي. ومن هنا يمكن معرفة الأسباب الحقيقية لتمسك روسيا بوجودها في سوريا، وهي مستعدة لخوض حرب عالمية من أجل استمرار نفوذها والحفاظ على مصالحها في هذه المنطقة الحيوية. وبما أن الهدف الاستراتيجي، هو تصدير الغاز عبر الأنابيب إلى أوروبا، برزت تركيا عقدة الحل في المعادلة، وقد تسارعت الخطوات لتنفيذ مشروع «السيل التركي»، وهو يتكون من خطين، يخصص أحدهما لنقل الغاز إلى تركيا لتلبية احتياجاتها، والثاني لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا. وإضافة إلى استثماراتها غير النفطية في مصر والبالغة 66 مليون دولار وتشمل 434 مشروعاً، تركز روسيا على استثمار «استراتيجي»، يشمل النفط والغاز والصناعات الكبيرة والكهرباء من الطاقة النووية، ويقدر حجمه بنحو 40 مليار دولار، وذلك لضمان مصالحها ونفوذها، ليس في مصر فقط بل في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
تبقى الإشارة إلى أنه وفق تقرير المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، تصدرت روسيا قائمة أهم المستثمرين في المنطقة العربية بقيمة 32,8 مليار دولار في العام 2017.