أهم جملة سمعتها من «ديمستورا» في الجلسات الطويلة التي تناولت الحل السياسي للقضية السورية، هي قوله(نحتاج إلى معجزة إلهية لإيجاد الحل)، ولقد كنت ألحظ في تعابيره ونظراته التي تبدو باردة، شعوره بالضيق مما يكتم، فهو يعلم جيداً أننا على حق فيما نطلب، وأن النظام يرتكب جرائم إبادة ضد الإنسانية، ويرى أن النظام يصعد هجومه بالبراميل والصواريخ، وحتى بالكيماوي على المدنيين مع بدء كل جولة مفاوضات، فيجعلنا نطالب بوقف إطلاق النار وبفك الحصار، وإطلاق سراح المعتقلين، وإدخال المساعدات للمحتاجين، وهذه القضايا جعلها القرار الدولي (مقدمات ملزمة تسبق التفاوض وتشكل مرحلة بناء ثقة)، وهي (البنود 12/13/14 في القرار 2254)، لكن «ديمستورا» جعلها موضع تفاوض وحيد، وأعتقد أن ذلك كان بتفاهم أميركي روسي لمنح النظام فرصة التفوق العسكري من مطلع 2016 مع التدخل الروسي لقلب موازين القوى. المهم أن ديمستورا تجنب على مدى سنوات مهمته بحث القضية الجوهرية، وهي كما حددها بيان جنيف والقرارات الدولية (إنشاء هيئة حكم انتقالي غير طائفي تملك الصلاحيات التنفيذية كاملة)، وكان طبيعياً أن تتوقف المفاوضات لأننا رفضنا أن يضع العربة أمام الحصان، فقد مضى في السلال الأربع التي وجد فيها وسيلة التهرب من الاستحقاق الرئيس، يبحث في سلة الإرهاب، ثم في الدستور، ثم في الانتخابات، ويتجاهل هيئة الحكم التي هي مفتاح الحل، وندرك أنه كان ينفذ توجهات دولية، ولكنه يخالف قرار الأمم المتحدة الذي بنيت مهمته على أساسه، وكان عليه إعلان رفضه لتلك الإملاءات المراوغة التي قادته إلى الفشل، وقادتنا إلى الجحيم. وكان يعلم أنه في كل دقيقة تأخير عن الوصول إلى حل سياسي هناك شلال من الدم يهرق، وقد عجبت من كونه قدم استقالته بما سماه (أسباب شخصية) وكان أفضل له أن يكاشف المجتمع الدولي بحقيقة ما حدث، وأن يقول بصدق (إن مجلس الأمن لم يكن جاداً في الوصول إلى حل يوقف الفاجعة السورية) وأن يُحمّل المجتمع الدولي مسؤولية الدمار الضخم غير المسبوق الذي حل بسوريا، جراء تنازع المصالح الدولية والتنافس على مناطق النفوذ في سوريا، والسماح لروسيا أن تتفرد وحدها بالحل، والسماح لإيران أن تتوسع في العالم العربي، وأن تطوقه من العراق وسوريا ولبنان وإلى اليمن.
ولو أن ديمستورا امتلك الجرأة على مثل هذه المكاشفة الصارخة لدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ولغفرنا له دورانه في الفراغ، وما الذي يمنعه من الانتصار لدماء مئات الآلاف من الأبرياء، ولا يزال بوسعه أن يفعل ذلك في آخر إحاطة يفترض أن يقدمها لمجلس الأمن، وحسبه أن يّذكر العالم بعشرات الآلاف من الذين قضوا غرقاً في البحر المتوسط، هاربين من الظلم وباحثين عن الأمان.
لا أدري ماذا بوسع الدبلوماسي النرويجي «جير بيدرسون» المبعوث الأممي الجديد إلى سوريا، أن يفعل بتركة «ديمستورا» الثقيلة! سيجد أمامه فرعاً من لجنة دستورية (غير منسجمة)، وليست لها شرعية تمثيل شعبي، ولن تملك الانتصار لرؤيتها وسط حشد من مؤيدي الاستبداد، وسيجد معارضة مشغولة بخصوماتها، وملايين من السوريين المنكوبين في خيام الشتاء بلا غذاء أو دواء، ولاسيما المشردين في مثل مخيم الركبان الذين لايعنيهم الدستور في شيء، وسيجد ملايين الأطفال الذين لامدارس لهم ولا منازل، وسيجد نظاماً غير معني بكوارث ملايين السوريين وبما يعانون، لأنهم في نظره «جراثيم» ينبغي أن يبيدها كي يحقق الانسجام مع من يؤيدون الظلم. لقد سبق أن طالبت بقرار دولي جديد واضح لاغموض فيه ولا التباس، يضع آليات ملزمة للحل، وبموقف جاد ضد التنظيمات الإرهابية التي يغذيها بعض من يدعي أنه يحاربها، وتلك مفارقة التاريخ، ومن لايصدق بوسعه أن يرى مأمن «داعش» في الجنوب، وأن يرى يقظتها في ريف دير الزور.