كم هو عدد الوظائف التي يمكن أن تتضرر بسبب الأتمتة؟ الكثير من الأشخاص يسألون هذا السؤال، والكثير من الأشخاص يحاولون تقديم أجوبة رقمية. دراسة حديثة لـ«منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» أشارت إلى أن نحو 46 في المئة من الوظائف يمكن أن تخضع للأتمتة. وأفادت دراسة في 2016 لـ«سيتي غروب» وجامعة أوكسفورد بأن 57 في المئة من الوظائف تواجه خطر التأثر بالأتمتة، وإنْ كانت الدراسة التي أجراها في 2013 الباحثان نفساهما توقعت 47 في المئة. ويأتي تقرير حديث لمؤسسة «برايس-ووتر-هاوس-كوبرز» بأرقام أكثر انخفاضاً، وإنْ كانت تختلف من بلد لآخر. وفي 2016، أتى «المنتدى الاقتصادي العالمي» برقم أقل من 40 في المئة بقليل بالنسبة للولايات المتحدة. وهناك أمثلة أخرى كثيرة.
هذه أرقام كبيرة. والأكثر إزعاجاً هو أنها جميعها متقاربة إلى حد كبير – فكل واحدة من هذه الدراسات يبدو أنها تخلص إلى أن نصف كل الوظائف تقريباً عرضة للتأثر بالأتمتة، ولكن لا تقلق – فلا أحد يعرف حقاً عدد الوظائف التي ستعوّضها الروبوتات، أو حتى ما معنى أن تعوّضها.
ولكن، ماذا يعني أن تُفقد وظيفة بسبب الأتمتة؟ هل يعني أن الحاجة إلى العامل ستنتفي كلياً؟ أم يعني أنه سيفقد وظيفته الحالية، مع شركته الحالية؟ وإذا حصل شخص على وظيفة جديدة في شركة مختلفة في القطاع نفسه بأجر أعلى، هل يُعتبر ذلك فقداناً للوظيفة؟
الدراسات ليست واضحة بهذا الشأن. منهجيتها الأساسية تقوم، عادة، على موافاة بعض خبراء التكنولوجيا بـ«وصف وظيفي» – أو المهام التي يقال، نظرياً، إن وظيفة ما تتطلبها – ثم سؤال الخبراء حول ما إن كانوا يعتقدون أن التكنولوجيا ستصبح قريباً قادرة على الاضطلاع بتلك المهام، ولكن حتى على افتراض أن الخبراء صائبون - أنه لا يوجد شتاء آخر للذكاء الاصطناعي، أو ركود تكنولوجي كبير – فلا أحد يعرف حقاً ما يحدث لوظيفة يمكن أتمتة مهامها.
في كتابهم «آلات التوقع: المبادئ الاقتصادية البسيطة للذكاء الاصطناعي»، يتوقع علماء الاقتصاد وأخصائيو الذكاء الاصطناعي أجاي أغروال، وجوشوا غانز، وآفي غولدفارب أن قلة قليلة فقط من الوظائف ستعوض بالكامل من قبل الذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب، ولكنهم يتوقعون أيضا أن الكثير من المهام الفردية ستصبح مؤتَمتة. ولكن، ما الذي سيحدث لموظف لديه الآن آلة تنجز نصف عمله ولكن ما زالت ثمة حاجة إليه للقيام بالنصف الآخر؟ الواقع أن راتبه قد يقلص، ولكنه قد يحصل على زيادة في الراتب أيضاً، على اعتبار أنه بات يستطيع الآن إنجاز عمل أكثر في الساعة مقارنة مع السابق. «وصفه الوظيفي» و«مسماه الوظيفي» قد يتغيران، ولكن من المستبعد أن يمانع ذلك إن كان يتقاضى أجرا أكثر.
بعبارة أخرى، إن التأثير المفترض الذي تطرحه الأتمتة ليس سلبياً كله - إذ له جوانب إيجابية أيضاً.
والأهم من ذلك أن الدراسات المشار إليها أعلاه لا تستطيع أن توضح الكثير عما تفعله الأتمتة بسوق العمل بشكل عام. ومن شبه المؤكد أنه بينما تصبح بعض الوظائف مؤتمتة ستُخلق أخرى لتحل محلها. وما على المرء إلا أن يتأمل كل الوظائف الجديدة التي لم تكن موجودة قبل بضع سنوات أو عقود مثل مدير منصات وسائل التواصل الاجتماعي أو أخصائي بيانات أو منتِج بودكاست.
الدراسات لا تشرح أيضا التأثيرات على الأجور. فالأتمتة تجعل إدارة شركة ما أرخص، وهو ما يمكن أن يجعل عدد الشركات يكبر ويتضاعف. وهذا يعني أنه حتى في حال قامت كل شركة بتوظيف عدد أقل من الأشخاص لوظيفة معينة، فإن عدد الأشخاص الذين يقومون بتلك الوظيفة يمكن أن يزداد. ولعل المثال البارز لهذا هو كيف كان يُتوقع أن تقلِّص أجهزة الصراف الآلي (أو ال«إيه تي إم») عدد الصرافين في البنوك. صحيح أن عدد الصرافين في البنوك في كل فرع انخفض بشكل مهم، ولكن البنوك فتحت الكثير من الفروع الأخرى، لأن أجهزة الصراف الآلي جعلت القيام بذلك أرخص. ونتيجة لذلك، ارتفع عدد صرافي البنوك في الواقع بشكل مطرد بين 1980 و2010.
والواقع أن الأتمتة موجودة منذ قرون – فآلة الخراطة، الجرافة البخارية، معالج النصوص، آلات كنس الشوارع، والكثير من الآلات الأخرى ليست سوى أشكال أخرى من الأتمتة. ولو قام المرء بدراسة مثل الدراسات المذكورة أعلاه في سنة 1900، لوجد أن أي وظيفة تقريباً في ذاك الزمان كانت لديها بعض المهام التي كانت ستقوم بها الآلات يوماً ما. ومع ذلك، فإن معظم الناس ما زالت لديهم وظيفة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»