في السياسة كما في حياة الإنسان يحتاج صانع القرار أن يعيد دراسة وترتيب الأولويات التي تخدم رؤيته وهدفه ووطنه، وهذا جزء طبيعي من صناعة القرار، وهو أمر يحدث كلما حدثت تغييرات تستدعي المراجعة وإعادة الترتيب.
مثل إعادة ترتيب الأولويات يمكن النظر إلى فن ترتيب العداوات، ففي السياسة كما هو معلوم لا حليف دائم ولا عدو دائم، وإنما هي مواقف تتغير وتتطور بحسب المصالح والأمن الوطني والمستقبل المنشود. في منطقتنا، منطقة الشرق الأوسط، هناك تيارات وأحزاب وحركات وتنظيمات، تجمّدت تماماً لأكثر من خمسة عقودٍ تقريباً فلم تستطع أن تتجاوز ترتيب أولوياتها أو ترتيب عداواتها منذ ذلك الزمن القديم، وهو جمود في عصر السرعة أشبه بالسير عكس الزمان والتقهقر في الرؤية والمشاركة الحضارية، فضلاً عن المكانة السياسية والتأثير السياسي.
مرّت بالمنطقة عواصف سياسيةٍ، بل زلازل من الحجم الثقيل، وبقي هؤلاء جميعاً عاجزين عن تطوير أي رؤية أو إنشاء أي تغيير، لا لشيء إلا لأنهم يعتقدون أن المواقف السياسية هي مواقف مقدسة أو إيديولوجيا لا يمكن المساس بها، وهذه أفضل وصفة للفشل السياسي، التخلي عن المرونة والبحث عن الأفضل والركون إلى الماضي كما هو، وربما كان نافعاً في وقته ولكنه يصبح كبير الضرر حين يتم الجمود عليه في زمنٍ آخر وتحديات مختلفة.
ولنأخذ مثالاً على العلاقات الخليجية مع العراق، فقد كانت علاقاتٍ طيبةٍ أثناء الحرب العراقية- الإيرانية، وكان دعم دول الخليج متواصلاً للعراق طوال سنوات الحرب الثماني، وانتصر العراق، ثم عكس العراق بوصلته في سنيّات معدودات فقرر غزو دولة الكويت التي دخلها في مطلع أغسطس 1990 واحتلها احتلالاً كاملاً بالقوة العسكرية، فلم يوجد عاقلٌ في الخليج أو في العالم إلا وعلم أن العلاقات ستنقلب رأساً على عقبٍ من الصداقة إلى العداوة.
جمدت العديد من التيارات والأحزاب والحركات والتنظيمات من قومية ويسارية وإسلام سياسيٍ على ما كان قبل من أيديولوجيتها وتغاضت تماماً عن الحجر الضخم الذي ألقي في بركة السياسة في المنطقة، وعجزت عن أي تطوير أو تفهم للأحداث، وقام التحالف الدولي بدكّ جيش صدام حسين وإعادته خائباً إلى العراق، وفرض عقوبات دولية عليه، فلم يزدادوا إلا إمعاناً في الجمود والتشبث بالشعارات الرنانة دون أي قدرة على التجاوز أو إعادة ترتيب الأولويات أو إعادة ترتيب العداوات.
سعت إيران منذ قيام ثورة الخميني وعبر تصدير الثورة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وفق الحرب المباشرة بالقوة العسكرية التي خاضها الخميني ضد العراق لسنواتٍ ثمانٍ وفشل فيها وتجرع السم ومات، وجاء بعده خامنئي واتبع استراتيجية أخرى لا تقوم على المواجهة العسكرية المباشرة، بل على التغلغل في الشعوب والمجتمعات العربية عبر أحزاب وحركاتٍ وميليشيات ينشئها أو قائمة يدعمها، ونجح في ذلك حتى أخذ يتبجح بعض مسؤولي النظام الإيراني بأنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية.
هذا تغيّر كبير جداً في المنطقة كان يوجب على الجميع الانتباه لخطرٍ جديد داهم وواقعي وعملي، ولكن هذه المجموعات من المفكرين والمثقفين والتيارات عجزت عن رؤية حجم التغيير، وبالتالي عجزت عن إحداث أي تطوير لترتيب الأولويات أو ترتيب العداوات. واليوم ثمة مشروعان كبيران يعاديان الدول العربية وشعوبها في المنطقة: المشروع الطائفي والمشروع الأصولي، ولم يزل العجز حاكماً على هؤلاء جميعاً بعدم الرؤية وعدم التبصر، فمن لا يعتبر هذين المشروعين مشروعين عدوّين فهو إما جاهل أو عاجز أو عميل لأحدهما. أخيراً، فقدرة الإنسان على التطور والتفهم والتغيير هي التي تحكم مكانته وتأثيره، وكذلك التيارات والأحزاب بل والدول.
*كاتب سعودي