بقدر ما يمكنني أن أتذكر، سعى الإسرائيليون إلى الحصول على اعتراف وقبول من العالم العربي من دون تقديم أي شيء في المقابل. وفي بعض الأحيان، كانوا يزعمون أنه إذا أقدمت الدول العربية على الاعتراف بهم كدولة طبيعية في الشرق الأوسط، فإنهم سيشعرون بالأمان بما يكفي لعمل تسويات مع الفلسطينيين.
وفي عام 2002، في محاولة لاختبار الالتزام الإسرائيلي بتحقيق سلام شامل كنتيجة للاعتراف والقبول، أعلن ولي العهد السعودي آنذاك عبدالله بن عبدالعزيز، مبادرة السلام العربية. وتضمنت المبادرة، التي صادقت عليها الجامعة العربية بالإجماع لاحقاً، النقاط التالية:
إذا وافقت إسرائيل على الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة إلى حدود ما قبل يونيو عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، ووافقت على حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ستعتبر الدول العربية، في المقابل، أن الصراع العربي الإسرائيلي قد انتهى، وستوقع اتفاقية سلام شامل، وتقيم علاقات طبيعية مع «دولة إسرائيل».
لكن في ضوء كذبهم بشأن اهتمامهم بالتوصل إلى حل سلمي وعادل للصراع، رفض الإسرائيليون مراراً مبادرة السلام العربية، وأصروا على أن تطبع الدول العربية العلاقات معهم من دون شروط مسبقة. ولم يحاول الإسرائيليون وحدهم الوصول إلى هذه النتيجة، وإنما حاولت شخصيات بارزة في إدارات أميركية مختلفة تشجيع القادة العرب على «قلب المبادرة العربية رأساً على عقب»، والإقدام على الاعتراف والتطبيع أولاً. وفي سعيهم لذلك، استخدم صناع سياسة أميركيون المزاعم الإسرائيلية بأنه إذا شعر الإسرائيلون بالأمان فإنهم سيصبحون أكثر انفتاحاً على التسوية مع الفلسطينيين.
وبرغم ذلك، شاهدنا أدلة دامغة مراراً وتكراراً على أن تلك المزاعم ليست حقيقية، فالتطبيع مع الإسرائيليين لن يحرك عملية السلام، وإنما يمكنهم من ضم الأراضي الفلسطينية. وفي كل مرة يقدم فيها العرب تنازلاً، يضعه الإسرائيليون «في جيوبهم»، ثم يرفضون تقديم شيء في المقابل، ويواصلون المضي قدماً في طريقهم كالمعتاد، بينما يطالبون بمزيد من التنازلات.
ومن الأمثلة القليلة على ذلك: أثناء الفترة السابقة لمؤتمر مدريد للسلام، اقترحت إدارة بوش الأب أن تقدم الدول العربية عرضاً «محفزاً» للإسرائيليين، أملاً في أن يفضي ذلك إلى تشجيع الإسرائيليين على التوصل إلى تسوية. وأشارت الإدارة الأميركية إلى أنه لو وافق العرب على إنهاء مقاطعتهم الثانوية للشركات التي تعمل في إسرائيل، فإن الإدارة ستضغط على الإسرائيليين من أجل قبول تجميد البناء الاستيطاني في الأراضي المحتلة. وأعلم بهذا الأمر من البداية، لأنني كنت قد أجريت مناقشات مع عدد من وزراء الخارجية العرب في ذلك الوقت. وأخطرت بعض الحكومات العربية الإدارة الأميركية بأنها ستفعل ذلك، وانتهت المقاطعة الثانوية، وعقد مؤتمر مدريد للسلام، لكن تجميد البناء الاستيطاني لم يتجسد أبداً.
وأذكر القيام برحلتي الأولى، في عام 1994، مع وفد من قادة الأعمال من الأميركيين العرب واليهود إلى الأراضي المحتلة، بصفتي رئيساً مشاركاً لمنظمة «بُناة السلام»، وهو مشروع كان قد دشّنه نائب الرئيس «آل جور». وفي تلك الزيارة، شاهدت دليلاً مرئياً على خيانة ما كان قد حدث في مدريد. فمع عبورنا إلى تل أبيب في أول ليلة لنا في المنطقة، تعجّب أحد أعضاء منظمتنا من إعلانات على المباني في المدينة تشير إلى أن الشركات الكورية واليابانية تقوم الآن بأعمال في إسرائيل. وأشار إلى أنه لاحظ أنه قبل سنوات قليلة لم تكن هناك أي من تلك الشركات تعمل هناك. لكن نتائج مؤتمر مدريد هي التي حملت تلك الشركات إلى إسرائيل.
وفي اليوم التالي، بينما غادرنا القدس متجهين إلى رام الله، أمكننا رؤية أنشطة إنشاء تلو الأخرى للمستوطنات تحدث بوتيرة متسارعة. وعندما علّقت على ذلك، ردّ علي أحد قادة الأعمال من اليهود الأميركيين مدافعاً بأن الإسرائيليين أخبروه أن ذلك لم يكن توسعاً استيطانياً، وإنما «مجرد نمو طبيعي» للمستوطنات القائمة، وعلى رغم من ذلك، كانت تجري أعمال إنشاء جديدة على تلال مختلفة، وكان يجري إنجاز مجمع مساكن «لليهود فقط» يحيط بالقدس الشرقية ويفصلها عن بقية الضفة الغربية. وانتهت المقاطعة الثانوية، لكن المستوطنات لم تنته!
وخلال العام التالي، ذهبت لحضور جلسة حول الاقتصاد الفلسطيني ضمن قمة اقتصادية إقليمية في عمّان، كانت من بين ثمار اتفاقات «أوسلو». لكن رجال الأعمال الفلسطينيون من الأراضي المحتلة لم يكونوا حاضرين! فقد رفضت إسرائيل منحهم تصاريح الخروج، ولم يسمح لهم بعبور جسر «اللنبي» لحضور القمة التي لم تكن لتحدث لولا موافقة الفلسطينيين على اتفاقات أوسلو.
وأثناء وجودي في عمّان، شددت على أنه لو لم يتمكن الفلسطينيون من الحضور إلينا، فإننا سنذهب بمجموعتنا من قادة الأعمال إليهم. والتقينا بعد بضعة أيام في فندق بالقدس. وحضر ممثلون من وفدنا وممثلون من الحكومة الأميركية. وانتظرنا لأكثر من ساعة ونصف لكي يحضر قادة الأعمال الفلسطينيون. لكن في نهاية الأمر، تلقينا اتصالاً منهم يخبروننا بأنهم عالقون في نقطة تفتيش بسبب رفض سلطات الاحتلال منحهم تصريحاً لدخول المدينة. وتم تأجيل الاجتماع المزمع. وانتهى الأمر.
وما يتضح تماماً من تلك الأمثلة وغيرها أن الإسرائيليين لم يعملوا أبداً بحسن نية، لاسيما في تعاملاتهم مع العالم العربي، وخصوصاً مع الفلسطينيين. فهم يحاولون الحصول على ما يريدون من دون مقابل. ولهذا السبب أقول: «لا تنخدعوا، فالتطبيع لن يحقق السلام، ولن يجلب حقوق الفلسطينيين».