أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة الأيام القليلة الفائتة قمرها الاصطناعي «خليفة سات»، أول قمر يتم تصنيعه على أرض دولة الإمارات، ويعتبر باكورة إنتاج قطاع التقنيات المتقدمة في الإمارات.
هذا الحدث الكبير يدعونا لطرح تساؤل جذري عن الحضارة وهل تقوم بالاستعارة أم لا؟
المعنى والمبنى وراء علامة الاستفهام المتقدمة تتصل بفكرة التعاطي مع لغة القرن أي التكنولوجيا الحديثة في البر والبحر والجو، وهل يمكن اعتبار امتلاك تلك الأدوات دلالة على نشوء وارتقاء الحضارة بالفعل أم أن هناك ما ورائيات أخرى يتوجب علينا الإحاطة بها.
باختصار غير مخل ما يعطي انطلاق «خليفة سات» تلك القيمة الفائقة هو صناعته بأيادٍ محلية إماراتية، ما يعني نجاح التجربة الإنسانية الإماراتية في الاستثمار في البشر قبل الحجر، وها هي صنيعة أياد تلك الكتيبة العلمية المبهرة، قمر اصطناعي، قام عليه فريق كبير يتشكل من نخبة المهندسين الإماراتيين، ويعتبر تجسيداً لخطط مركز محمد بن راشد للفضاء، الهادفة إلى تأهيل جيل من العلماء والمهندسين الإماراتيين الذين سيساهمون بخبراتهم في إطلاق مشاريع فضائية طموحة خلال العقد المقبل.
غداة إطلاق خليفة سات، بالصواب تكلم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حين أشار إلى أن الأحلام الإماراتية باتت اليوم تعانق الفضاء عبر الإرادة والإدارة الإماراتية المتمثلة في شبابها الذين يصنعون الآن مرحلة جديدة من التحدي العلمي.
أبدع ما في مشروع النهضة الإماراتي أنه يتجرأ على الأمل، من خلال متلازمة العمل بحزم والإتقان بعزم، فتكون النتيجة في نهاية المشهد التنبؤ بمستقبل الإمارات، لكن ليس من خلال النجوم أو الكتب، بل عبر صناعته على الأرض الإماراتية. أمران يلفتان النظر في الحديث الكبير الأخير:
أولاً: التسمية، بمعنى إطلاق اسم صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، على القمر الاصطناعي الجديد، بما ما في هذا الشأن من إظهار للأصالة والقيم الأخلاقية العالية داخل مجتمع عربي يعرف قدر الرموز، ويقدر في مودة إنسانية فائقة التراتبية الأخوية قبل حديث المناصب والكراسي والرئاسات، وهو أمر غير مستغرب على أبناء الأب المؤسس زايد الخير، الرجل الذي ضرب أروع أمثلة الوفاء والنقاء، الصدق والإخلاص، التسامح والكرم.
ثانياً: في لغة رائدة دائماً ما يتحدث صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد عن أبناء وبنات الإمارات ويستخدم تعبير «عيال زايد»، ما يدلل على النظرة الخلاقة والإنسانية، التي تتجلى فيها ملامح ومعالم المواطَنة في الداخل الإماراتي، فالفرص متاحة للمبدعين فيهم، والآفاق مفتوحة للتأكيد على أن العرب قادرون بالفعل على المنافسة والريادة.
والشاهد أن يوم إطلاق «خليفة سات» يعد يوماً ومولداً جديداً لجيل إماراتي أحلامه تجاوزت الأرض إلى الفضاء كما جاء في تصريحات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، وله في الحق حين يصف ما جرى بأنه ملحمة وطنية، أثبت فيها أبناء الإمارات قدرتهم ونضجهم.. علمهم وهمتهم التي يسابقون بها العالم.
رأس الإمارات في السماء، واقع حال معاصر، وإطلاق قمر «خليفة سات» يعني أن مسبار الأمل سيصل بالفعل إلى المريخ كما هو مخطط له في 2021، وهذه بدورها ستكون محطة ضمن محطات الحلم الإماراتي الكبير لعام 2071 الخاص بريادة النموذج الإماراتي حول العالم في ذكرى مائة عام على مولد الإمارات كدولة حديثة.
تأملُ ما جرى في الإمارات يبين لنا أن الغنى والفقر في العقول قبل أن يكون في الجيوب، وأن الرهان الحقيقي على أفكار الابتكار والإبداع الخلاقة، كما أن ميدان التنافس الحقيقي لم يعد ساحات الوغى كما كانت الحال في الجاهلية، بل في ميادين العلم، وها نحن نرى على سبيل المثال الولايات المتحدة الأميركية تعود من جديد في الأيام الأخيرة لإحياء برنامج حرب النجوم أو الكواكب، والذي وضعت لبناته في العالم عام 1983 في ظل إدارة الرئيس «الجمهوري» الراحل رونالد ريجان، ما يُبين أن مستقبل البشرية على الأرض صار مرتبطاً ارتباطاً جذرياً بالصراع الدائر في الفضاء في العقود الثلاثة المنصرمة.
أفضل ما يمكن أن يُقال عن مشروع الإمارات لريادة الفضاء هو أنه مشروع خلاق ومستنير، بمعنى أن الإمارات بذلت في سبيله الكثير جداً من الاستثمارات المادية لكي يعم المردود الإيجابي لا عليها فقط، بل ينسحب كذلك على بقية دول العالم العربي، وهذا ديدن الشراكة الإماراتية الأثيرة، فالمشروع يستهدف جمع جهود العلماء العرب وتبادل الخبرات في علوم الفضاء مع أبرز العقول العربية، وإنشاء منصة بيانات علماء الفضاء العرب كي تجمع العلماء والعاملين في قطاع الفضاء لتبادل الخبرات، وإتاحة المجال لمشاركة تجاربهم مع الأجيال الشابة، وأيضاً إنشاء مجلس يضم المهتمين باستيطان الفضاء، يشمل في عضويته أفضل العلماء والخبراء العالميين في مجال الفضاء.
يمكن للإماراتيين اليوم الرد على برنارد لويس أبو الاستشراق الذي اعتبر أن أموال النفط لطمة للحضارة، فها هي الأيادي الإماراتية تثبت أنها في خدمة الحضارة.
*كاتب مصري