«عندما تكلمت المكائن بدأت علاقات جديدة مع البشر»، عنوان تقريري من مدينة بوسطن، في 5 أغسطس عام 1991، وتحدثتُ فيه عن لقائي بالعالم اللبناني الأميركي «جان مخول» الذي كان يُعلم المكائن الكلام. والآن تُحقق الأنظمة الناطقة موارد بمليارات الدولارات، عن عملها في أجهزة الاتصالات، وتشغيل الأدوات المنزلية، والسيارات، والبواخر، والطائرات. وكالأذن البشرية، تدركُ المكائنُ الكلامَ، حيث يقوم المحللُ الطّيفي بعمل الأذن الداخلية في تحويل الذبذبات الصوتية إلى إشارات رقمية، ويتعامل النظام معها وفق نظرية الاحتمالات، على غرار تعامل الدماغ البشري مع الإشارات العصبية الواردة من الأذن.
و«المكائن لا تعزل البشر عن الطبيعة، بل تدفعهم نحوها بقوة أكبر»، حسب الأديب الفرنسي الطيار «أنطوان أكزوبري». ومنذ تطوير الشبكة العصبية الاصطناعية، قبل أربع سنوات، تلتحم المكائن بالبشر، وتتعرف على الأصوات والصور في آن واحد. وهذا هو قرن الذكاء الاصطناعي، الذي يُغير العالم بشكل لا مثيل له منذ ظهور الإنسان قبل ملايين السنين. ومن مؤسسي الشركات العالمية في الذكاء الاصطناعي «مصطفى سليمان»، وهو يبدو نسخة القرن الـ21 من «ستيف جوبز» مؤسس شركة «آبل» و«آي فون». فهو مثله سوري الأب، ومثله ترك دراسته الجامعية وكان في «أكسفورد»، وانصرف إلى عالم الأعمال المتصلة بخدمة المجتمع، حيث أنشأ «صندوق الإغاثة لشباب المسلمين» في لندن، والذي حقق موارد مدهشة، ثم أسس شركة تطبيقات الذكاء الاصطناعي «ديب مايند» Deepmind التي تعني بالعربية «العقل العميق» التي استدعتها خدمات الصحة العامة في بريطانيا لمواجهة هجمات سيبرانية شلّت عملها، وتقيم معها مؤسسات طبية عدة، بينها «مستشفى مورفيلد للعيون» في لندن، أبحاثاً مشتركة. وفي عام 2014 اشترت «غوغل» شركة «ديب مايند» لقاءَ 513 مليون دولار. وهو سعر قياسي في شراء الشركات في أوروبا.
وتُديرُ عمليات الشركة عالمةُ الكومبيوتر «ليلى إبراهيم»، وهي لبنانية الأب، احتلت غلاف مجلة الأعمال «فوربس»، وذلك لمشاريعها الرامية لوضع التكنولوجيا في خدمة المجتمع، وبينها إقامة مختبر كومبيوتر في دار الأيتام بلبنان، حيث نشأ والدها، وأشرفت على تجهيز 400 ألف جهاز كومبيوتر إلى البرتغال، ودَرّبت عليها 30 ألف معلم. وتتحدث «ليلى إبراهيم» عن أمل جديد يحمله الذكاء الاصطناعي لمواجهة تحديات تبدو غير قابلة للحل؛ من الفقر، وحتى تغير المناخ العالمي، والأوبئة. وفي مقال لها في «نيويورك تايمز»، قالت «ليلى إبراهيم» إن الذكاء الاصطناعي «أداة تساعدنا في بناء مستقبل أكثر عافية، وفي إنجاز ما لا حصر له من اكتشافات علمية، وفي المشاركة العامة في الرفاهية وتحقيق القدرات البشرية». وتشير العالمة اللبنانية إلى زيادة الوعي باحتمال أن تكون للإبداع التكنولوجي عواقب غير متوقعة، ومع أنها تُقِر بالقلق المشروع من قلة العمل في مواجهة ذلك، فإنها لا تعتبره سبباً لإشاعة التشاؤم، «بل الأحرى أن يكون محفزاً للتفكير بالعالم الذي نريده، وهي أسئلة لا تطرح على التكنولوجيا فحسب، بل على المجتمع أيضاً، ولم يحدث عبر التاريخ سوى القليل، أو لا شيء ربما في فحص وتوقع جميع الطرق التي قد تقع فيها أخطاء».
هل يستولي «ذكاء اصطناعي» مارق على العالم، ويجعل البشر كالحيوانات المنزلية الأليفة؟ سؤال يثير قلق العالم. وهنا يبدو اختيار مصطلح «الذكاء الاصطناعي» منتصف القرن الماضي غير موفق. فمئات الألوف من الأنظمة والأجهزة التي يطلق عليها هذا المصطلح طوّرتها بحوث وتجارب وتدريبات شاقة قام بها آلاف العلماء والمختبرات. وتتولى مسؤوليات ريادية في هذا الصدد أول «وزارة للذكاء الاصطناعي» في العالم أسستها دولة الإمارات العربية المتحدة، ومسؤولياتها ليست تكنولوجية، أو علمية فحسب، بل سياسية، وقانونية، وحتى فكرية وفلسفية.. فيا أيها الذكاء الاصطناعي الذكي، أهلاً وسهلاً بك.