اتّسم الإقلاع الآسيوي نحو الحداثة بتعقيدات عدة شابها الكثير من الالتواء ومن العنف والحروب. فالبداية، كما هو معلوم، كانت في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وتعرض ذاك البلد للقنبلتين النوويتين في هيرشيما وناغازاكي. بعد ذاك، وخصوصاً في السبعينيات والثمانينيات، بدأت ظاهرة «النمور» و«التنانين» الآسيوية التي أنجزت أولاً الإقلاع الاقتصادي في ظل أنظمة عسكرية واستبدادية، ثم انتقلت، ثانياً، وفي التسعينيات، إلى الإقلاع السياسي الديمقراطي. وإذا كانت نهاية الحرب الباردة قد لعبت دوراً بالغ الأهمية في هذا التحول الأخير، فإن المسألة التي لا تحظى بما تستحقه من تركيز وعناية تطال العلاقة الصينية الغربية، وخصوصاً الأميركية، ودورها في ذلك، سلباً وإيجاباً.
فالإقلاع الياباني بدأ، بمعنى ما، في غفلة عن الصين. ذاك أن وضع دستور الجنرال ماك آرثر ومباشرة إعادة البناء والتعمير إنما تمّا قبل أن تستولي الشيوعية على الصين في عام 1949. بعد ذاك اقتصر الجهد الصيني الخارجي، فيما النظام الجديد يؤسس نفسه بصعوبة، على الحرب الكورية. مع هذا فالبلدان الآسيوية الأصغر كانت الأشد تأثراً بالتنافر الصيني الغربي، لاسيما وأن بكين (بيجين) وموسكو كانتا يومذاك لا تزالان متحالفتين. في هذا المناخ، كان للتوتر عنوانان كبيران: أولهما فورموزا (أو تايوان) التي تعهدت واشنطن بحمايتها فيما اعتبرتها بكين نظاماً انفصالياً مارقاً وتهديداً أجنبياً لفكرتي الوحدة والسيادة الصينيتين. أما العنوان الثاني فكان حرب فيتنام، حيث بقي دعم فيتنام الشمالية موضوع اتفاق وتلاقٍ بين العملاقين الشيوعيين الروسي والصيني. وبدورها شهد أواسط الستينيات مذبحة إندونيسيا الرهيبة، حيث قتل الجنرال سوهارتو، المدعوم من واشنطن، عدداً يتراوح بين 500 ألف وثلاثة ملايين من الشيوعيّين وأبناء الأقلية الصينية الكبرى.
على أن تفاقم الخلاف بين موسكو وبكين في ظل تقارب أميركي صيني، بدءاً من السبعينيات، غيّر معطيات كثيرة. ففي عام 1971 أصبحت الصين، بدلاً من تايوان، صاحبة المقعد الدائم في مجلس الأمن، وهذا ما مهّد لمسيرة من العلاقات الإيجابية، في السياسة كما في الاقتصاد، بلغت ذروتها مع وفاء بريطانيا، عام 1997، بتعهدها الانسحاب من هونغ كونغ وإعادتها إلى البر الصيني. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وجدت واشنطن وبكين نفسيهما في مواجهة النفوذ السوفييتي في غير بلد وموقع، كأنغولا والموزمبيق وكمبوديا، فضلاً عن باكستان التي حظيت بدعمهما في مواجهة الهند المدعومة آنذاك من موسكو. وبالفعل شكَّل هذا المناخ الوعاء الإيجابي الأوسع للشعور الآسيوي بالارتياح والطمأنينة، وبالتالي للمضي في الإقلاعين الاقتصادي والسياسي، مما استُكمل بعد انتهاء الحرب الباردة.
ويُخشى اليوم أن تتغير هذه المعطيات، أو بعضها على الأقل. فإلى الحرب التجارية الأميركية الصينية التي أطلقها دونالد ترامب، هناك القواعد الأميركية الكثيرة في آسيا والتي تنظر إليها الصين بعين الريبة فيما تطالبها الدول الآسيوية الخائفة من الصعود العسكري الصيني بالمزيد من الحضور والضمانات. ومعروف أن النزاع حول جزر بحر الصين الجنوبي، يشمل العديد من البلدان التي تعارض مزاعم الصين الموصوفة بالتوسعية في تلك المنطقة. لكنْ هناك أيضاً عنصران آخران يضاعفان القلق ويشكلان خلفية ضمنية لما يحصل أو قد يحصل، أولهما أن العلاقات الصينية الروسية اليوم في أحسن أحوالها، ما يذكّر البعض بالأجواء التي رافقت الحرب الكورية في أوائل الخمسينيات. وإلى هذا، فإن الحضور الكبير للأقليات الصينية في معظم بلدان آسيا المجاورة للصين يهدد بتحويل المواجهات الخارجية، إذا ما حصلت، إلى مواجهات داخلية وأهلية.
وعلى العموم، يبقى أن التوتر بين واشنطن وبكين قد يرتدّ على نحو سيّئ جدّاً على منطقة كان الظن أنها وضعت الآلام والحروب وراءها من دون رجعة.