يعتبر موضوع إشكالية التجديد في الفتوى من الإشكاليات الأكثر حضوراً في المبادرات التي تطلقها كثير من الدول الإسلامية، وذلك لقناعة هذه الدول بأن ما حدث وما يحدث في عالمنا المعاصر من انتشار لأفكار دينية متشددة، ساهم بشكل كبير في تأزيم الوضع الداخلي للدول، بما ذلك الاحتقان الاجتماعي والجدل السياسي، ما قاد إلى إشعال ثورات تستهدف استقرار الشعوب وأمن دول المنطقة، الأمر الذي نتج عنه اندلاع أزمات في العلاقات الدولية دفعت بعض الدول للتدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول المستهدفة، سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً، بل إلى احتلال دول إسلامية ومحاولة فرض سياسة ابتزاز للنيل من سيادة الدول عبر فرض نماذج حكم يتبعها الجميع بغية تنفيذ سياسات الدول الأجنبية المتدخّلة، وذلك بالاعتماد على بعض الجماعات في المنطقة، وفي طليعتها جماعة «الإخوان المسلمين» الإرهابية.
والمتابع لخطط واستراتيجيات التنظيمات الإسلاموية والجهادية، يجد أنها تعمل أولاً على التشكيك في فتاوى المؤسسات الإسلامية الرسمية، من مجامع فقهية وطنية أو عالمية، وذلك لدفع الشباب المسلم نحو البحث عن المعلومة الدينية من خلال المنابر الإعلامية والمواقع الإلكترونية التابعة لجماعات التطرّف، فيحصل انفصام لدى المتلقي بين ما حصل عليه من «عِلم» مصدره العالم الافتراضي، وبين واقع يعيش تقلبات ومتغيرات يصعب ضبطها لإخراج أحكام فقهية مناسبة لروح العصر وخصائص المرحلة.
إن ضبط الفتوى، والتصدي لفوضى الفتاوى الفقهية، وتحديد المفاهيم بصورة واضحة، والمشاركة في حل مشكلات عالمنا المعاصر.. كل ذلك أصبح أكبر تحدٍ تواجهه أمتنا الإسلامية، وذلك لما يجده البعض من صعوبة في التوفيق بين التراث الفقهي (الذي يضم في داخله المتساهل والمتشدد) وبين ما كان صالحاً في زمانه ومكانه وما يستحيل تطبيقه اليوم، مع العمل على نقل مجال الإفتاء من مجال سلبي يقتصر على حل المشكلات إلى مجال أكثر إيجابية ينتقل إلى عمل التدابير الوقائية من المشكلات، ويشارك في البناء ومنع نشر الفتن الكلامية المؤدية إلى استعمال منطق القوة عِوَض قوة المنطق على حد تعبير الفيلسوف نيتشه.
لذا كان مشروع «نحو ميثاق عالمي جامع للفتوى» الذي أطلقه المؤتمر الرابع للأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم الذي عقد في القاهرة بين يومي 16 و18 من شهر أكتوبر الجاري، محل اهتمام شديد من كل المعنيين والمهتمين بهذا الموضوع، خصوصاً بعد استفحال حالة الفوضى التي أصيبت بها الساحة الإفتائية خاصة، والخطاب الإسلامي عامة، ما يزيد الحاجة إلى تعاون علمي يخرج بالواقع من حالة الفوضى إلى الاستقرار، عبر منهج احترافي له أصول أخلاقية، يجمع شمل الجهود التي بُذلت في الفترة السابقة لضبط عملية الفتوى، ويجدد بشكل حضاري آداب الفتوى، ويقدم لمدونة شاملة لأخلاقيات مهنة الإفتاء، ومن ثم يصبح أداة لتكون الفتوى إسهاماً حضارياً في البناء والعمران.
لقد خصص الميثاق العالمي للمجتمعات المسلمة فصلاً كاملاً لهذا الموضوع، وذلك انطلاقاً من القناعة الصادقة والرشيدة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بأن مواجهة جماعات التكفير والتفسير السياسي للإسلام تبدأ أولاً برد الاعتبار للمؤسسات الدينية ورجالاتها من أئمة وخطباء ومفتين، والارتقاء بدورها الرسالي في تأصيل ثقافة التسامح ونشرها عبر الخطب المنبرية والرسائل الرقمية، لتحصين أبناء المسلمين من خطورة خوارج العصر ومن خطر التجنيد من طرف جماعات الإسلام السياسي.. وثانياً بأن مواجهة الفكر المتشدد تبدأ أولاً بمراجعة تراثنا الفقهي، في ضوء الحكمة من التشريع، مع العمل من أجل الارتفاع بفكرة المصالح إلى مستوى المصلحة العامة الحقيقية كما تتحدد من منظور الخلفية الإسلامية.. وثالثاً العمل على «تأصيل الأصول» بإطلاق التجديد في القواعد الأصولية عبر استحداث وسائل أخرى للقياس والتعليل والدوران، وما إلى ذلك، لأن كل اجتهاد في النوازل الفقهية انطلاقاً من القواعد الأصولية القديمة فحسب إنما هو اجتهاد تقليد لم يرق إلى اجتهاد تجديد، وإنْ أتى بفتاوى جديدة في شكلها الظاهري.
لذلك لا بد أن تنتصر مبادرات اجتهاد التجديد التي تؤسس لمنهجية علمية منضبطة بأحكام الدين، على تيارات الجمود والتفسير السياسي والمصلحي للإسلام.
إن التجديد في الفهم السليم للدين والإدراك الواعي للواقع، سينجح عملية التنزيل في سياق المرحلة، تحقيقاً لمصالح الناس والأوطان.