طيلة سنوات الحرب الباردة كانت الهند تعتمد في تسليح جيشها على الاتحاد السوفييتي السابق اعتمادًا كلياً. وقد تزايد هذا الاعتماد بصورة ملحوظة بعد توقيع البلدين لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية في الثمانينيات زمن حكم رئيسة الحكومة الهندية أنديرا غاندي. لكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وبروز الولايات المتحدة كقطب عالمي أوحد، وما تبع ذلك من إتباع الهند لسياسات السوق بدلاً من النهج الاشتراكي، انفتحت نيودلهي على واشنطن خاصة وعلى الغرب عموماً بشكل غير مسبوق. وقد صاحب ذلك نوع من التوازن في وارداتها العسكرية، إذ ذهب بعض صفقات وارداتها الحربية إلى الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا.
على أن هذا التحول لم يغيّر كثيراً من مبدأ أن المصدر الرئيس للسلاح الهندي هو موسكو تحديداً، كون الجيش الهندي تم تسليحه منذ البداية بالصناعة العسكرية السوفيتية التي ورثتها روسيا الاتحادية، أما الدليل فهو أن العام 2000 شهد توقيع اتفاقية بين البلدين يدوم مفعولها حتى 2010، وتقوم روسيا بموجبها بتوريد معدات عسكرية عالية التقنية للهند بقيمة 16 مليار دولار، شاملة صواريخ باليستية وغواصات ذرية. والدليل الآخر هو ما أسفر عنه لقاء القمة في موسكو سنة 2015 بين الرئيس «فلاديمير بوتين» ونظيره الهندي «ناريندرا مودي»، وهو توقيع 16 اتفاقية تركزت على إنتاج صواريخ «براموس» الهندية والمروحيات الروسية من نوع «كاموف 226» وبناء الروس ست محطات للطاقة النووية لصالح الهند.
الأمر الوحيد الذي اختلف في هذا السياق هو أن صفقات السلاح الهندية مع موسكو في السنوات القليلة الماضية تضمنت شروطاً حول التصنيع المشترك للسلاح في الهند بعدما حققت الأخيرة إنجازات تكنولوجية محلية متقدمة في التصنيع الحربي من خلال شركتها المعروفة باسم «هندوستان إيرونوتكس ليمتد» والتي أسندت إليها مثلاً مهمة تصنيع الجيل الخامس من مقاتلات سوخوي الروسية بموجب ترخيص خاص. وبطبيعة الحال كان توطين الصناعة العسكرية الروسية في الهند جزءاً من مشروع «صنع في الهند» الذي تبناه «مودي» منذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة سنة 2014 بهدف إيجاد موضع متقدم لبلاده بين الأمم الصاعدة من خلال أبواب التصنيع والتجارة الخارجية والاكتفاء الذاتي. وفي اثنتين من حالات الاستياء النادرة في تاريخ التعاون العسكري الروسي الهندي أبدت نيودلهي انزعاجها من فشل روسيا في تسليم حاملة الطائرات «أدميرال جورشكوف» في الوقت المحدد، الأمر الذي ترتب عليه وجوب قيام الهنود بدفع 2.2 مليار دولار ثمناً لها بدلاً من السعر المتفق عليه سابقاً، وهو 947 مليون دولار. ثم أبدت لموسكو قلقها واستياءها من موافقة الأخيرة على تزويد باكستان بمروحيات هجومية ومحركات لطائراتها الحربية.
في زيارته الأخيرة لنيودلهي، والتي سبقتها زيارات عديدة منذ صعوده إلى الواجهة كزعيم أوحد لروسيا، وقع بوتين صفقة عسكرية جديدة ضخمة مثيرة للجدل مع نظيره الهندي فاقت قيمتها 5.4 مليار دولار، تزود موسكو بموجبها الهند بخمس كتائب من صواريخ إس-400 المتطورة التي لم تُختبر فعلياً في ميادين القتال حتى الآن على الرغم من قيام العديد من الدول (تركيا والصين وبيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا) بطلبها، ناهيك عن اهتمام دول أخرى عربية بشرائها.
المشكلة في الصفقة الروسية الهندية هذه لا تكمن فقط في استياء خصوم الهند مثل الصين وباكستان من عقدها، فهذا متوقع منهما ولا يكترث الهنود والروس لاستيائهما. إنما المشكلة تكمن في انزعاج واستياء وانتقاد الولايات المتحدة للصفقة. وإذا كان البائع هنا وهو موسكو غير مكترث، فإن المشتري وهو نيودلهي عليه الحذر كون واشنطن حليفتها الاستراتيجية أيضا ومزودتها ببعض أنواع الأسلحة المتطورة جداً. والمعروف أن واشنطن ومعها الغرب، الذين يفرضون رزماً من العقوبات ضد موسكو عقاباً لها على تدخلها في أوكرانيا وسوريا وفي الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، ناهيك عن أعمالها التجسسية وقيامها باغتيال مواطن روسي على الأرض البريطانية، أقلقهم أن يشاهدوا الهند وهي تنضم إلى نادي «صواريخ إس 400» من دون أدنى مبالاة بوجود عقوبات أميركية اقتصادية ضد أي بلد أو شركة يبرم عقود تسلح مع شركات روسية.
والمعلوم في هذا السياق أن واشنطن طبقت مثل هذه العقوبات فوراً ضد شركات صينية بسبب شرائها تقنيات عسكرية من روسيا في وقت سابق من العام الجاري. غير أن التعامل مع الصين شيء، والتعامل مع الهند شيء آخر بالنسبة للأميركان. فالهند، التي يحتاجها الأميركيون في مشاريعهم الاستراتيجية في المحيطين الهندي والهادئ من أجل كبح جماح التغول والتمدد الصيني ومشاريع بكين للهيمنة في جنوب شرق وشمال شرق آسيا، مثلما يحتاجونها كسوق لمبيعاتهم العسكرية (منذ عام 2008 ارتفعت صفقات الدفاع الأميركية مع الهند من صفر إلى 15 مليار دولار) قالت صراحة على لسان وزيرة دفاعها «نيرمالا سيتارامان» إن صفقات السلاح مع روسيا ضرورية وأن «العقوبات الأميركية المحتملة لن تردعنا عن القيام بذلك» واصفة تلك العقوبات بأنها أميركية وليست قانوناً أممياً صادراً عن مجلس الأمن الدولي. وقد عزز رئيس الحكومة الهندية موقف وزيرة دفاعه بالقول إن الهند تعطي الأولوية اليوم لعلاقاتها مع روسيا الاتحادية.
يُجمع المراقبون على أن نيودلهي لم تكن لتتحدى العقوبات الأميركية المحتملة لولا علمها المسبق أن واشنطن لن تستطيع فعل شيء، وسوف تجد للمشكلة مخرجاً كأن تعفي الهند من تطبيق العقوبات أو تتساهل معها، لأن الهند ليست إيران ولا باكستان ولا الصين في الحسابات الأميركية.