في ذكرى حرب أكتوبر 1973 بين مصر وسوريا من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، كُشف النقاب في الولايات المتحدة عن وثائق جديدة تؤكد أن الحرب كادت تتحول إلى حرب أميركية سوفييتية نووية. وكشفت هذه الوثائق أن الرئيسين الأميركي ريتشارد نيكسون والسوفييتي ليونيد بريجنيف كانا في وضع نفسي ومعنوي متدهور لم يكن يشكل حاجزاً واقياً دون الانجرار إلى الحرب. فنيكسون كان يعاني من تداعيات انكشاف فضيحة التجسس التي أمر بإجرائها على مقر الحزب الديمقراطي المعارض له في مبنى «وترجيت» بواشنطن، حتى أنه أصبح مدمناً على الخمر. فهو إما نائم أو فاقد للوعي. أما برجنيف فكان يعاني من الإدمان على تناول المهدئات بسبب تزاحم القضايا التي كان عليه أن يتخذ بشأنها القرارات المناسبة. غير أن إلحاح الرئيس المصري أنور السادات، وإلحاح المسؤولين في الكرملين على مواصلة التواصل معه، كان يحرمه من النوم. كان السادات في ذلك الوقت يصرّ على الاتصال المباشر وباستمرار بالرئيس بريجنيف شخصياً وملاحقته حيثما كان وفي أي وقت، طالباً الدعم السياسي والعسكري لمواجهة الدعم الذي كانت الولايات المتحدة تقدمه لإسرائيل.
استجاب بريجنيف لمطالب الرئيس المصري –وفق هذه الوثائق- وأرسل قوات عبر البحر الأسود، ثم البحر المتوسط إلى الإسكندرية. واستناداً إلى صور الاستخبارات الأميركية، فإن تلك القوات كانت معززة بصواريخ تحمل رؤوساً نووية.
ولعل من أهم ما كشفت عنه هذه الوثائق، هو أن التراجع على الجبهتين الأميركية والسوفييتية الذي أدى إلى منع نشوب الحرب النووية، لم يحدث لا بقرار من الرئيس الأميركي ولا بقرار من الرئيس السوفييتي. بل إن القرار اتخذ من وراء ظهريهما معاً.
تبين الوثائق أن واشنطن كانت تعتقد بأن موسكو على علم بالحالة النفسية المتدهورة للرئيس نيكسون. وتعتقد أنها ربما كانت تحاول استثمار هذه الحالة لفرض أمر واقع جديد في لعبة الأمم من خلال الشرق الأوسط. فالرئيس نيكسون طرد من إدارته المدعي العام ونائبه، مما أطلق موجة أقاويل وإشاعات تشكك في قدراته العقلية.
لذا تعاملت إدارة نيكسون مع الأزمة الخطيرة مع موسكو بمعزل عنه، ومن دون مشاورته، وحتى من دون إطلاعه على الأمر، لأنه لم يكن في وضع يمكّنه من اتخاذ القرار. وقد تولى إدارة عمليات الأزمة وزير الخارجية آنذاك هنري كيسنجر بالتعاون مع الجنرال الكسندر هيغ الذي كان يشغل منصب مدير البيت الأبيض.
وصلت رسالة الإنذار السوفييتية شديدة اللهجة بينما كان نيكسون نائماً. فقرر كيسنجر وهيغ عدم إيقاظه. وبدلاً من ذلك دعا الرجلان إلى اجتماع طارئ لكبار المسؤولين لإعداد الرد الأميركي. واستناداً إلى الوقائع التي كشف النقاب عنها الآن، فإن القرار الذي اتخذ بالإجماع في هذا الاجتماع الطارئ رفع الاستعداد للحرب النووية إلى الدرجة الثالثة. أي إلى أعلى درجة منذ الأزمة الشهيرة مع كوبا. واستند المجتمعون في اتخاذ القرار الخطير إلى المعلومات التي جمعتها المخابرات العسكرية الأميركية ومفادها أن السفن السوفييتية المتجهة إلى شرق المتوسط لم تكن تحمل جنوداً ومعدات عسكرية فقط، ولكنها كانت تنقل سلاحاً نووياً كذلك.
هناك اعتقاد بأنه لو أن الرئيس نيكسون كان حاضراً الاجتماع، لربما بادر إلى استعمال السلاح النووي.. لكن الله سلّم!
وفي الجانب السوفييتي لم يكن الأمر مختلفاً كثيراً. فالوثائق هنا تشير أيضاً إلى أن القرار بكبح التصعيد اتخذ من وراء ظهر الرئيس بريجنيف وبمعزل عنه. واستناداً إلى الوثائق السوفييتية الرسمية فإن رسالة التهديد التي وجهها بريجنيف إلى نيكسون أعدها بريجنيف في منتجعه في فيزافيدوفو في الثانية صباحاً. وفي رسالة ثانية دعا المكتب السياسي للحزب الشيوعي إلى اجتماع طارئ لاتخاذ إجراءات مشددة أكثر ضد الولايات المتحدة. صحيح أن الرسالة أُرسلت بالفعل إلى واشنطن، لكن الإجراءات التي كان يفترض اتخاذها لم تنفذ. فقد أدرك أعضاء في المكتب السياسي خطورة الانجرار إلى الصدام النووي مع الولايات المتحدة، لذلك اقتصر الأمر على التلويح دون التنفيذ!
أما بطل هذه العملية في الجانب السوفييتي فكان اندروبوف الذي كان مسؤولاً عن المخابرات (كي-جي-بي)، والذي انتخب بعد وفاة بريجنيف رئيساً للكرملين. لقد كان طموح اندروبوف بالرئاسة أحد العوامل التي دفعته للحيلولة دون نشوب حرب نووية مع الولايات المتحدة؛ إذ بماذا تنفعه الرئاسة بعد حرب نووية لا تبقي ولا تذر؟!
في عام 1973 كان نيكسون وبريجنيف، في حالة نفسية متدهورة. ولو كان القرار لهما وهما في تلك الحالة.. لربما كان العالم اليوم عالماً آخر!