باتت بريطانيا اليوم على وشك الانسحاب من الاتحاد الأوروبي؛ حيث لم يعد يفصلنا عن الموعد النهائي سوى أقل من ستة أشهر. وفي غضون ذلك، ضربت صدمةٌ سياسية ثانية، صدمةٌ قد تكون أهم من الصدمة الأولى. هذه الصدمة الثانية تتعلق بحزب «العمال» المعارض، الذي قفز من وسطية الطريق الثالث الكلينتوني إلى أقصى اليسار في أقل من عشر سنوات. ففي مؤتمره الحزبي الأخير، لم يَعد حزب «العمل» بتأميم قطاعات مثل الماء فحسب، ولكن أيضاً بإنشاء مجالس إدارة تضم في عضويتها سياسيين محليين، وعمالاً، ومدافعين عن البيئة، ومستهلكين للإشراف على تسييرها. كما يطالب البرنامجُ الرسمي للحزب بأن تستثمر الشركات التي تشغِّل 250 موظفاً أو أكثر 10 في المئة من أسهمها في «صناديق ملكية شاملة» يشرف عليها العمال. وعلاوة على ذلك، يبحث اقتصاديون مرتبطون بالحزب إعادة إقرار إجراءات السيطرة على حركة رؤوس الأموال وخفض أيام العمل إلى أربعة أيام في الأسبوع.
نتائج حزب «العمال» في استطلاعات الرأي حالياً قوية على غرار نتائج حزب «المحافظين» الحاكم تقريباً. وبالتالي، ففي حال أدت عملية «بريكست» التي لا يمكن التنبؤ بها إلى انتخابات مبكرة، فإن النتيجة ستكون تساوياً في حظوظ الحزبين. وحتى في حال أُجريت الانتخابات المقبلة في موعدها المقرر، في 2022، ما يتيح للمحافظين فرصة لمعالجة انقساماتهم الداخلية الناجمة عن «بريكست»، فإن احتمالات فوز حزب «العمال» قد تكون 1 مقابل 3 أو نحو ذلك. وهذا احتمال أعلى بكثير مما كان يتوقعه معظم المحللين في حالة «بريكست» غير منظمة، تغلَق فيها حدود بريطانيا فجأة وتتعطل سلاسل إمدادها. وعندما يشتكي زعماء الصناعة والتجارة في لندن ويتحدثون عن مغادرة بريطانيا، فإن الشبح الذي يخشونه أكثر من غيره ليس هو «بريكست» وإنما حكومة «عمالية». فماذا يحدث؟ ومن أين أتى تطرف بريطانيا؟ أحد الأجوبة هو أن المعدلات الوطنية المحترمة تحجب وراءها التجربة الصعبة التي تعيشها بعض المجموعات الفرعية. ذلك أنه بين 2010-2011 و2014-2015، عانى أكثر من ثلث البريطانيين من انخفاض في دخل الأسرة بلغ أكثر من 5 في المئة. كما عانى أولئك الذين يعتمدون على الدولة بشكل كبير من تأثيرات خفض حاد في الإنفاق الحكومي.
ولكن التفسير الأكبر ثقافي. ذلك أنه على اليسار وعلى اليمين، هناك شعور بأن المجتمع أخذ يتغير بسرعة وبشكل غير عادل. النسخة اليمينية من هذا الشعور بانعدام الأمن تتركز على الهجرة. فبين 1964 و1989، لم يكن عدد المهاجرين الذين يأتون للعيش في بريطانيا يتجاوز 250 ألف في السنة أبداً؛ ولكن خلال السنتين السابقتين على تصويت البريكست، فاق عدد القادمين الجدد 600 ألف سنوياً. وعندما يعبّر الشعبويون المحافظون عن آراء ومواقف معادية للأجانب ويتحدثون عن «استعادة السيطرة»، فإنهم يستغلون رد الفعل الغاضب على ذاك الارتفاع في الأصوات الأجنبية.
وفي الأثناء، يتركز شعور اليسار بانعدام الأمن الثقافي على شكل من أشكال التفاوت الاجتماعي الذي يتجاوز البيانات حول الدخول، ليشمل ملكية الودائع والشعور بالاستقرار الوظيفي. فالموسرون يستطيعون التعويل على وظيفة ذات راتب، وحصة في سوق العقار، وربما بعض الأسهم في شركات. أما الفقراء، فيواجهون عقود عمل قصيرة الأمد، وارتفاع الإيجارات، ولا أمل لهم في نيل حصة في الأرباح التي تدرها الرأسمالية. وعندما يقترح حزبُ العمل «سيطرة المجتمع» على الشركات وإعادة توزيع أسهمها، فإنه يقوم باستغلال مشاعر الاستياء هذه.
وبالنسبة لمن يتابعون هذا الوضع خارج بريطانيا، ينبغي أن يشكّل تطرفُ الثقافة السياسية، التي كانت معتدلة وعقلانية في يوم من الأيام، تحذيراً للجميع. فالعولمة والتغير التكنولوجي، اللذان سيزدادان بفضل التقدم في الذكاء الاصطناعي، يخلقان مشاعر مماثلة بانعدام الأمن في الديمقراطيات الناضجة. والدرس الذي تعلِّمنا إياه بريطانيا هو أنه عندما يفشل الوسطيون في معالجة هذه التحديات، فإن شعبويي اليسار واليمين يسعون لملء الفراغ. وعليه، فإن السباق متواصل لتحديد برنامج سياسي يحد من التظلمات الحقيقية من دون الإضرار بالرخاء أو العيش الكريم.

نشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»