لا شك أن عادل عبد المهدي مختلف عن نوري المالكي وحيدر العبادي، ليس فقط في الانتماء الحزبي الذي لم يعد يعترف به بل أيضاً في الرؤية السياسية، وإذ يقول بعض عارفيه إنه أقرب إلى ما أظهره العبادي من طموح لإعلاء شأن الدولة وقواها المسلحة، فإن بعضاً آخر يعتبر أن عبد المهدي ربما كان يصلح أكثر لولاية حكومية في أجواء سلمية تمكنه من اختبار قدراته التوفيقية والإصلاحية. غير أن رئيس الحكومة المكلّف يعرف جيداً الواقع الصراعي في العراق، عايشه وأقام علاقات وطيدة مع معظم أطرافه، وكان طامحاً ومرشحاً للمنصب حتى في أحلك المراحل. لعل استقالاته من المناصب التي تقلّدها سابقاً تطرح تساؤلات عن نهجه ومزاجه، فهو مدرك أن الدولة لا تزال في طور التكوّن، ولا احتكام فيها للقوانين بل للتوازنات السياسية، كما أنه يعرف أن لا نجاح في أي مسؤولية من دون «قتالية» ومتاعب. ربما تُعزى استقالاته السابقة إلى عراقيل جديّة لمس أنها لا تمكّنه من العمل، أو إلى اعتبارات سياسية آثر ألا يفصح عنها لئلا يفقد مكانه في المشهد السياسي.
لكن استقلاليته بقيت «ملتزمة»، إذا صحّ التعبير، فحافظ على تواصل وثيق مع إيران وبزخم أقلّ مع الأميركيين، ما ساهم في إعادته إلى الواجهة كمرشح توافقي لترؤس الحكومة. وما فتح هذا الباب أمامه أن تنافس القوى داخل «البيت الشيعي» ومضامين صراعاتها وخلفيات أقطابها وضرورات توافقها أدّت أولاً إلى تقليص قائمة المرشحين للمنصب، وثانياً إلى استبعاد مَن سبق تجريبه فضلاً عن إقصاء مَن كانوا في الصف الثاني ولا يتميّزون إلا بأنهم كانوا موظّفين عند الأقطاب. هنا ظهر عبد المهدي في منزلة وسطى تجعله مقبولاً لدى الأطراف المتضادة، ولم يكن هناك سوى تحفظ واحد عن ترشيحه من حزبه السابق، أو بالأحرى من زعيم «تيار الحكمة» الذي انشقّ عن «المجلس الإسلامي الأعلى» الذي كان عبد المهدي في صفوفه ثم ابتعد. وفيما فقد حزب «الدعوة» الأفضلية التي كادت تصبح عُرفاً بأن تؤول رئاسة الحكومة إليه، فإن ترشيح عبد المهدي كمستقل يؤسّس لتغيير «انتقالي» في اختيار رجالات الدولة.
ثلاثة عوامل فرضت هذا التغيير. أولها يتمثّل في الإشكالات الحاصلة داخل «البيت الشيعي»، كما سبقت الإشارة، وهي ليست صراع أشخاص فحسب بل تنافس بين طموحات ومفاهيم وبين رؤى متشابكة إلى سيرورة العراق وصيرورته داخلياً وعلى مستوى الإقليم، فبين الولاء أو العداء لإيران والولايات المتحدة استطاع «الولاء للعراق أولاً» أن يفرض نفسه سواء في الأطروحات السياسية أو في النقمة العارمة التي عبّرت الانتفاضات الشعبية عنها. وثانيها، أن الوسط السياسي لم يكن قادراً أخيراً على تجاهل حقيقة أن فشلاً أمنياً وسياسياً وخدماتياً حصل خلال حكومتَي المالكي تحديداً وتسبّب بظهور تنظيم «داعش» وانتشاره، وهي الكارثة التي كلّفت العراق خسائر بشرية فادحة ودماراً كبيراً وخسائر اقتصادية ومالية كان الأولى أن تخصص للتنمية. وثالثها، أن صراع النفوذ والمصالح بين الولايات المتحدة وإيران أدّى إلى استخدامهما كل أوراقهما للتحكّم بالمرحلة المقبلة. وفيما استندت واشنطن إلى الحرب على «داعش» لدعم بقاء العبادي في منصبه والبناء على ما أنجزه، فإن طهران ارتابت بمحاولاته للتمايز عن خطّها وهاجمت موقفه من العقوبات الأميركية فرفضت استقباله ثم استغلّت انتفاضة البصرة لتضع «فيتو» على استمراره، فكان لا بدّ من الحلّ الوسط الذي تمثل بعبد المهدي.
من الواضح أن الرئيس الجديد للحكومة بدأ عمله مستنداً إلى الاستخلاصات التي توصّل إليها المرجع الشيعي علي السيستاني وزعيم قائمة «سائرون» مقتدى الصدر، وأهمها أمران: أولوية الإصلاح وإعادة الإعمار وتطوير الخدمات، الابتعاد عن الوسط السياسي الذي سبق تجريبه وبرهن انغماسه في الفساد. وحين بادر الصدر إلى إعلان أن تياره لن يرشح أيّاً من أعضائه للتوزير، فقد أعطى دفعاً لاختيار المستقلّين من أصحاب الخبرة والكفاءة، واندفع عبد المهدي إلى هذا الخيار متاحاً الترشيح الإلكتروني الحرّ للعثور على المستقلين المرغوب فيهم. قد تُبدي الأحزاب الممثلة في البرلمان تعايشاً مع تحدّي دعمها المفترض للحكومة مع قبول تحييدها وعدم اعتماد المحاصصة في توزيع الوزارات. لا شك أنها تجربة غير مسبوقة في «عراق النظام الجديد» وليس هناك تصوّر واضح لكيفية إدارتها، فالأحزاب اعتادت التعامل مع الدولة على أنها مموّلها الرئيسي عبر تقاسم الحقائب الوزارية وميزانياتها. حان الوقت لكي تكفّ الأحزاب عن استمداد نفوذها من شعبيتها وليس من إضعاف الدولة.